مستاءة وغاضبة، كل شيء يعجبني، رغم ذلك أرغب في الصراخ، رغبة أنثى صادقة لا نزوة طفلة مدللة. الوضع لا يسمح لي بذلك، المكان والناس والزمان لا يسمحون لنا بصراخ مفاجئ لا سببا وجيها ومنطقيا له. قد يتفهمون صرخة مدوية بسبب رؤية فأر مذعور يجري، لكنهم لن يستوعبوا أبدا صرخة يائسة تنبعث مستعجلة لفداحة الحسرة. لا شك أن كتمان صرخة تكاد تمزق الأحشاء هو أمر غير لطيف البتة، يماثل اختناق بارود في بندقية راع بقر كوبي غاضب، يضغط الزناد، فينفجر البارود في وجهه. أخنق الصرخة بداخلي فينفجر في وجهي الحنين. نظرة خاطفة للوراء، قد لا تتجاوز مدتها الدقيقة أو نصفها، تغرقني في حنين يتجاوز في طوله الأبد. نظرة إلى ما كان وكيف كان وأين كان، ثم إلى ماذا صار، أمسك جهاز التحكم عن بعد، وأعيد الفيلم الركيك من أوله، أرى الابتسامات والوعود والطيش والبراءة، أرى السذاجة والحيطة، أرى أحلاما تبنى فوق جسور الطموح وأخرى تسقط من على علياء الخيال. ثم أتحسس الواقع، وأضحك. أرى من وعدونا بالأبد وهم يفترشون قلوبنا كزرابٍ إيرانية عتيقة، هائمين في دنيانا يوزعون العهود والوعود كقساوسة يمنحون صكوك الغفران وتأشيرات الفردوس، وقد تحولوا لمجرد ذكرى باردة، باهتة الشكل والطعم. فننسى ملامح وجوههم ونبرة أصواتهم ولذة عناقهم. لحظة ونظرة إلى الكائن الذي كنته قبل سنة، سنتين، عشر، كفيلتان بإحياء موتى ذاكرتك واستخراجهم من ظلمات النسيان. لتكتشف أنك ما نسيت، كل ما في الأمر أنك خزنتهم في علبة سوداء كبيرة كنفق معتم، ثم ابتعدت عن النفق. إلا أن مرورك منه يوما ما حتمي لا نقاش فيه.
يقول درويش إن الحنين هو استرجاع الفصل الأجمل في الحكاية، إلا أن كل فصول حكايتي جميلة بمرارة، فلا أسترجع سوى الجمال المر، ولا أدري أأهيم في الأول أم أتجرع الثاني!
علامات التحول بادية علي كما يبدو الخوف على رجل اكتشف عقمه، كيف وصلت إلى هنا، ومن أوصلني!؟ التجارب تعجننا، تشكلنا، وتنقشنا كأوانٍ طينية في يد صانع مخضرم، عاصر الحداثة وما بعدها، واكتفى بعجن الطين وصنع الأواني بعيدا عن صراخ ولهاث الحالمين بعالم متحد، ومتوحد. اكتشاف التحول الذي لحق بنا يصيبنا بالهلع، والشرخ العظيم الذي يفصلنا عمن كان سابقا يزعزع أركان صلابتنا، اعتراف ضمني بأننا لسنا ما كنا عليه، وربما لسنا ما نحن عليه الآن، فقد تهم حوادث أخرى تحولنا بدورها لأشخاص مختلفين جدا، وقد تستطيع تحويلنا للآخر، الآخر الذي نخشاه ونتجنبه .. والذي أحيانا قد نكرهه، اعتراف ضمني بأننا أبناء التجارب وصنيعتها. ثم بعد كل ذلك يعترضنا الحنين للوضع الذي كان، وللشخص الذي كناه، على الرغم من سماجته وبؤسه وتعبه، للبشر الذي عشنا في كنفهم واستراحوا بين أحضاننا، على الرغم من أن رحيلهم كان لطفا إلهيا بالغا. إلا أن الحنين لا يحترم كل تلك العقلانية التي نتحلى بها عند اتخاذ قرارات صائبة. هو يأتي ليخبرك هامسا برقة ماكرة، أنك يوما ما وفي زمن ما كنت يا بائس يومك، تبتسم بفرح كبير لشيء أو شخص، ما عاد له الآن وجود. ويرحل، فيتركك تنزف الأسى وتبكي الندم. هذا التناقض المريع بين حنينك لشيء أو شخص ما، واقتناعك بأن ما فعلته تجاهه كان هو الصواب كفيل بإذلالك. الصواب لا مشاعر له، هو صواب لأنه يصحح المسار ويعيد القطار لسكته، غير مكترث إن كنت تحب استكمال الرحلة أم الترجل عن القطار المنحرف.
الحنين المكبوت الذي لا فرار من قبضته يغري بالصراخ، أنت مضطر لكي تخرج شيئا منه إلى العالم الفسيح كي لا يقضي عليك، والصراخ في مكاني هذا أمر بدائي يتنافى ورونق الإنسان الحضاري اللطيف. لذلك أكتب لأصرخ، ولأعترف بأني في حضرة الحنين تتبلد مراكز الشعور داخل جسمي فلا أكاد أشعر بشيء، سوى وخز مرهق يخرجني من غيبوبتي، كصعقات تيار كهربائي في بيت متهدم لم يسلم منه سوى أريكة متهتكة وجهاز راديو أذاع يوما ما خبر عودة جيش التحرير، دون تحرير أي شيء. يوجعك، وتستلذه. ماذا نفعل إذا اجتاحنا الحنين!؟ لا أدري صدقا ما الواجب فعله، لكني أنزوي في ركن صامت، هادئ، أنا الوحيدة التي تغلي فيه، فتزعجه. وأترك لقلمي حرية الصراخ، أسمح له بالغضب والاستياء، بالعتاب الطويل واللوم الكثير، وأقف على مقربة منه أنتظر انتهاء فورته وانخماد اشتعالاته.
يقول درويش أن لا أحد يحن لجرحه، بل إلى ما قبله، فماذا لو كان ما قبل الجرح جرح أكبر منه !؟ هل سيخجل الحنين حينها فيكف عنا سخطه، أم أن الأمر عنده سواء !؟