(هذا الموضوع منقول لموقع

تم نقله للفائدة ولوصوله لمجتمع راقي مثل حسوب )

زنوبيا.. ومشروعها القومي

وهذا جهد متواضع للاقتراب من الحقيقة"‏

لا يمكن أن يرد اسم تدمر، دون أن يذكر معه اسم "زنوبيا" وحين يقال "زنوبيا" فلا بد أن يسرح الخيال بعيداً في تلك الواحة الوارفة وسط بادية الشام، وراء الظلال والأفياء، والأعمدة الخالدة، والنخيل الباسق، والأحداث الكبرى التي وحدت الاسمين، وصاغت منهما إحدى ملاحم التاريخ الجميلة الباقية على مر العصور.‏

وعندما استطاعت ملكة البادية الجبارة هذه أن تقيم أول امبراطورية عربية قوية، في ذلك الزمن الصعب، وإن لم تعمَّر طويلاً، فإنها سبقت الامبراطورية الأموية بأربعة قرون.‏

وكانت الظاهرة الكبرى في تاريخ العرب قبل الإسلام حينذاك هي افتقارهم إلى وحدة سياسية تجمع شملهم تحت راية دولة قوية واحدة ، تعيش وتصمد في وجه عاديات الزمن ، وهذا ما صنعه الإسلام في القرن الميلادي السابع .‏

ومهما يكن من أمر فإن تدمر استفادت من الاتجاهات الجديدة في الامبراطوريات العالمية والتحول في طرق التجارة الدولية، فارتفعت من قرية صغيرة إلى واحدة من مدن العالم القديم العظمى.‏

كانت تدمر قائمة بين امبراطوريتي الفرس والرومان، في موقع منعزل وسط الصحراء. وهذا ما جعلها صعبة المنال قبالة الفرق الرومانية والفارسية "الفرثية"، ومكن تجارها من استغلال وضعها‏

هذا كمحطة رئيسية لنزول القوافل، عند هذه النقطة من التقاء الطرق التي تعبر الصحراء من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب.‏

عرب يكتبون بالقلم الآرامي‏

ويرى معظم الباحثين أن أهل تدمر هم من العرب، مع أنهم كانوا يكتبون بالقلم الآرامي. "ويصح هذا على أغلب القبائل العربية التي أخذت تستولي على المناطق الخصبة الواقعة شرق أرض كنعان بعد سقوط الدولة البابلية، فقد كانوا يكتبون بالآرامية، وذلك لكونها لغة الكتابة والثقافة والتجارة في المنطقة الواسعة الواقعة غرب الفرات" ويضيف الدكتور نبيه عاقل إلى الثقافة الآرامية في تدمر، الثقافة العربية واليونانية والرومانية.‏

لقد حدث تقارب بين التدمريين والرومان في عهد الامبراطور "هادريان" "117-138م" الذي مر بتدمر حوالي عام 129 واستقبل فيها استقبالاً حافلاً، فأخذت لقب "المدينة الحرة Civitas Liber"، الذي يخولها سن ضرائبها وجبايتها بنفسها بل إن هادريان أعطاها اسمه "Hadriana Palmyra" أو "Hadriana Polis" ومنح أهلها حقوق روما، كحق الملكية المطلقة والحرية الكاملة في إدارة السياسة. وفي المقابل فإن التدمريين صاروا يسمون أبناءهم أسماء رومانية، وقدموا للرومان قوات من الخيالة التي كانت تحارب بالنبال.‏

خلال ذلك أفادت تدمر من وقوف نشاط دولة الأنباط نهائياً عام 106م إثر زوال استقلالها ونفوذها السياسي. وهؤلاء الأنباط، كما يرى جواد علي عرب مثل سائر العرب، وإن استعملوا الآرامية في كتاباتهم، بدليل أن أسماءهم هي أسماء عربية خالصة، وأنهم يشاركون العرب في عبادة الأصنام المعروفة عند عرب الحجاز مثل "ذي الشرى" و"اللات" و"العزى" وأنهم رصعوا كتاباتهم الآرامية بكثير من الألفاظ العربية.‏

وكان الأنباط قد تمكنوا من استغلال موقع بلادهم جنوب بلاد الشام، لمرور شرايين التجارة بين العربية الجنوبية وبين بلاد الشام، ففرضوا ضرائب على التجار وعلى التجارة عادت عليهم بفوائد كبيرة، كما قاموا بالوساطة، في نقل التجارة بين بلاد الشام ومصر ومواضع من جزيرة العرب. وقد كان ميناء غزة ميناء الأنباط المفضل على البحر المتوسط

كل الطرق إلى تدمر‏

إذن، فقد آلت الطرق التجارية في الشرق جميعاً بين بلاد الشام وجزيرة العرب، من جهة، وبين فارس وبين الهند والصين من جهة أخرى، إلى تدمر، وأصبحت حلقة أساسية في طريق الحرير الهامة بين الصين والعالم الروماني، وهي من مسالك التفاعل الحضاري في العالم القديم.وأمسى التدمريون تجاراً بعد أن كانوا وسطاء تجاريين أو حماة للقوافل. وهكذا وصلت تدمر إلى أعلى درجات الازدهار الاقتصادي، فكان أن التفتت إلى نهضتها العمرانية، فجددت ورممت معابدها القديمة وبنت معابد جديدة: "معبد بل. معبد بنو. معبد بعلشمين. معبد اللات" وأنجزت بناء السوق العامة Agora ثم أضافت لها ملحقاً واسعاً، وبدأت بإنشاء الشارع الرئيسي الذي أزال مباني قديمة كثيرة أو عدل مخططاتها.‏

"وقد اكتشف نقش يبين مقدار الضرائب الجمركية المفروضة على السلع التجارية التي تمر بتدمر، وتبين من هذا النقش أن أهم هذه البضائع كانت الأنسجة الصوفية والأرجوان والحرير والزجاج والعطور وزيت الزيتون والفواكه المجففة والجبن والخمر. ويستدل من هذه القائمة أن تجارتهم كانت مع الهند والصين وبابل والمدن الفينيقية والجزيرة العربية."‏

تدمر وروما‏

يمكن الاستنتاج من الكتابات التي تعود إلى مطلع القرن الأول الميلادي أن تدمر، قبل إلحاقها بروما كان لها نظام حكم يقوم على وجود مجلس للشيوخ ومجلس للشعب، شأن المدن الإغريقية . ولكن دور العشيرة كان هاماً جداً.‏

وعندما دخلت روما منطقة الشرق الأوسط، كقوة خارجية صاحبة نفوذ طمعت بالاستيلاء على تدمر، فأمر مارك انطونيو فرسانه بالاستيلاء عليها عام 41ق.م، وفي إيضاح هذه الواقعة، لدينا نص منقول عن المؤرخ "ابيان" فيما كان يتحدث عن وقائع عام 41ق.م يشي بسياسة التعالي التي لا تخلو من حسد، مما كان يشعر به الرومان تجاه تدمر، فهو يقول "إن كليوباترة عادت بحراً إلى مصر، وأرسل مارك انطونيو فرسانه إلى تدمر، وأمرهم بنهبها إرضاء لهم، إذ ليس لديه ما يلوم عليه التدمريين، اللهم إلا سياستهم المستقيمة، فهم تجار يبتاعون من فارس منتجات الهند وبلاد العرب لبيعها للرومان".‏

ولكن هذه الحملة لم تكن موفقة، فقد أخلى أهل تدمر مدينتهم وأسرعوا ليعبروا الفرات، بأرزاقهم، وأخذوا عبر النهر، يُصلون فرسان انطونيو بوابل من سهامهم الشهيرة.‏

وكما يبدو، فإن هذه الحملة كانت عابرة، ولم يترتب عليها شيء يذكر، إلا أن المرجح أن تدمر كانت تعترف في هذه الفترة بشيء من السيادة لروما، على أن النفوذ الروماني فيها كان صورياً أكثر منه حقيقياً. أما الحامية الرومانية التي أقامت فيها بعدئذ، في النصف الثاني من القرن الميلادي الأول، فإنها لم تكن لتشكل شيئاً يذكر في أعين أهل المدينة والقبائل المحيطة بها.‏

وبقي حال تدمر هكذا: تبعية صورية لروما، ونفوذاً حقيقياً للحكم المحلي، إلى أن جاء الامبراطور "تراجان" فألحقها بالمقاطعة العربية التي أنشأها عام 106م وهو العام الذي شهد نهاية دولة الأنباط على أيدي الرومان أنفسهم.‏

كانت تدمر تحمي نفسها وطرق مواصلاتها في البادية اعتماداً على قواتها الخاصة من الرماة التدمريين، الذين صارت لهم شهرة خاصة، في هذا النوع من استخدام السلاح، وبينهم مشاة وفرسان وهجّانة. وقد شارك هؤلاء مع الفرق الرومانية القادمة من أوروبا وشمال افريقيا في تهديم هيكل اليهود في القدس.‏

روما تطمع في الخليج‏

كان مشروع "تراجان" الامبراطوري التوسعي يرمي إلى إيصال حدود الدولة الرومانية حتى نهر دجلة، والخليج العربي. وكان يعرف أهمية تدمر الجغرافية والسياسية، وهي تتوسط طرق المواصلات جميعاً في هذه المنطقة، فأولى هذه الأمر عناية خاصة.‏

ومع غياب "تراجان" وصعود الامبراطور "هادريان" اختلف وضع تدمر تماماً على النحو الذي ذكرنا.‏

وفي جميع الأحوال، فقد كان ثمة قوة من الفرسان التابعة للجيش الروماني، لسنا ندري تعدادها بالضبط، تعسكر خارج تدمر، لمراقبة الحدود الشرقية للامبراطورية الرومانية.‏

وإذا رأينا أن هذه القوة الرومانية ترمز إلى شكل من وصاية روما على تدمر، فإنها لم تتوفر "بقوة الفتح بقدر ما كانت نتيجة طبيعية لمصالح تدمر الاقتصادية واشتباك تلك المصالح مع مصالح الرومان الذين أصبحوا يسيطرون على الطرق والمرافئ في سورية ومصر والأناضول".‏

"وأصبحت طرق البادية مألوفة في العهد الروماني، فمن حمص أو دمشق أو بصرى كانت تتفرع دروب طويلة تلتقي في تدمر التي تشكل مستودعاً كبيراً في الطريق إلى بلاد الرافدين وفارس، وكان من مصلحة الرومان والفرثيين (الفرس) المشتركة رغم تخاصمهم إعادة النشاط لطريق الصحراء المختصر عبر تدمر، وهو مباشر واقتصادي وآمن نسبياً".‏

وكان ثمة مدن تابعة لتدمر في مقدمتها "دورا أوروبوس" قرب مدينة البوكمال على نهر الفرات. وقد استخدمت لحماية تجارة تدمر الناشئة. ووجدت فيها بقايا أبنية ذات زخارف نافرة تمثل جنوداً تدمريين.‏

وكانت الرصافة بين هذه المدن التي ارتبطت بتدمر اقتصادياً وعسكرياً، وقد عرفت بعدة أسماء في التاريخ القديم مثل "سرجيوبوليس Sergiopolis" وهي تسمية رومانية و"رصابا Rasappa" وهي تسمية أكثر قدماً ترجع إلى الحقبة الآشورية في القرن التاسع قبل الميلاد.‏

صورة تدمر العربية‏

لم تتضح هوية تدمر، ولم تتبلور صورتها العربية قبل آل أذينة، على الرغم من تولي قائد عربي امبراطورية روما، هو سبتيموس سفيريس Septime Severe (193-211م) كان من مواليد مدينة لبتيس Leptis -تدعى اليوم لبدة- في ليبيا، وهي مستوطنة فينيقية، وكانت زوجته عربية أيضاً واشتهرت باسم جوليا دومنا، وهي من حمص، وكان والدها الكاهن الأعظم لهيكل إيلاغابيل Elagabel في هذه المدينة. ذاك أن سفيريس لم يضف أو يعدّل شيئاً في تدمر سوى أنه جعلها مع ملحقاتها بين المدن الاقليمية في امبراطوريته، وفرض على أهلها التجنيد الإجباري.. مثلما فرضه على سواها من مدن الامبراطورية.‏

غير أن الجدير بالذكر أن سفيريس عمل على إبعاد الفرس نهائياً من حوض نهر دجلة وأنهى ذلك نهائياً عام 201م.‏

ولم يمض زمن طويل، حتى كانت السلالة الساسانية قد وصلت إلى سدة الامبراطورية في فارس عام 227م. وقد أدى ذلك إلى تبدل الموقف الاقتصادي والعسكري والسياسي في تدمر رأساً على عقب. ذاك أن الساسانيين احتلوا مواقع هامة على نهري دجلة والفرات، حتى مصبهما، قاطعين الطريق على تجارة تدمر وتجارها، فأحس التدمريون بالاختناق. "وفي هذه الفترة تقل الكتابات المتعلقة بالقوافل. وذلك دليل على أن الثمرات أخذت بالجفاف والنضوب في تدمر جنة القوافل"

لقد مر زهاء خمسة عشر عاماً على تدمر منذ أن منحها كراكلا -ابن سفيريس وجوليا دومنا العربيين- لقب "المعمَّرة الرومانية" الذي يسوّيها بروما من حيث إعفاؤها من دفع الضرائب. وقد أدى ذلك إلى إعطاء الاقتصاد التدمري دفعة جديدة هامة. وكان لا بد أن ينعكس هذا الازدهار التجاري على حالة المدينة العمرانية والاجتماعية "فمد الشارع الرئيسي نحو معبد "بل” وجعلت له تلك البوابة الرائعة المشتهرة باسم "قوس النصر"، وأخذت تبنى المدافن الفخمة التي اصطلح على تسميتها "المدافن-البيوت" ووصلت تدمر في عمرانها إلى مصاف كبرى المدفن العهد الروماني في سورية.. وخارجها."

إذن لم يكن بد أمام تدمر، من الالتفات نحو روما، لمواجهة الساسانيين ومشروعاتهم التوسعية التي تهدد التجارة والاقتصاد والأمن والاستقرار فيها.‏

حقبة حرجة غامضة في تاريخ تدمر‏

ولكن روما لم تكن في أفضل أحوالها، فهي تعيش فترة مضطربة، تميزت بهجمات الفرنجة والألمان والقوط.. والفرس أنفسهم.‏

كانت هذه في الواقع حقبة حرجة وغامضة في الآن ذاته، من تاريخ تدمر، لكن الوضع السياسي تبلور فيها في صورة إمارة تدمرية عربية ذات حكم ذاتي موالية مبدئياً للرومان، تلتف حول أسرة عربية تدمرية.. هي الأسرة الأذينيّة.‏

والواقع أن هذه الأسرة التي يقول "الطبري" إنها من بني "السميدع" وينسبها إلى "هوبر العمليقي"، هي أسرة قديمة معروفة. تولى رجالها مشيخة تدمر والزعامة فيها..‏

أما رأس الأسرة الذي برز اسمه، مقترناً بالطموح الذي مازال ينتقل من زعيم إلى آخر في السيادة والاستقلال عن الرومان والفرس معاً، وبناء دولة عربية قوية تنبثق من قلب بادية الشام، فهو أذينة بن خيرانَ بن وهب اللات.‏

"كانت هذه الأسرة الأرستقراطية المتنفذة، صاحبة الثروة ورؤوس الأموال تحكم المدينة على طريقة مجالس الشيوخ. وألّفت قوة ميليشيا Militia من أبنائها وأبناء القبائل المحالفة لها لتقوم بهذه الواجبات التي لا تستطيع الحاميات الرومانية القيام بها، وهي حماية قوافلها التجارية وحراسة أموالها. وقد كان بالإمكان الاستفادة من التدمريين الذين خدموا في الجيش الروماني لحماية المدينة وتجارتها في أوقات الشدة التي يضطر فيها الرومان إلى سحب حامياتهم من المدينة".‏

نواة جيش تدمر‏

كان هؤلاء في الواقع هم النواة التي شكل منها آل آذينة جيش تدمر، مستغلين انصراف أنظار روما عنهم، لانشغالها بالاضطرابات التي كانت تحيط بحدود امبراطوريتها.‏

وهكذا استطاع أذينة بن خيران الطامح إلى إقامة دولة حقيقية تتوسط الامبراطوريتين الفارسية والرومانية، وتستفيد من موقعها الجغرافي، في قلب الطرق التجارية، ومن مكانتها الاقتصادية -أن يحقق حلمه ويصبح ملكاً عام 250م. لكن الرومان رغم كل مشاغلهم ومتاعبهم، صعب عليهم أن يسمحوا بذلك، فقرروا التخلص منه، وأوعز قيصرهم إلى رجل لا ندري من هو بالضبط، لكنه يدعى "روفينوس Rufinus" بأن يغتال أذينة.‏

وينقل جواد علي عن "أوبرديك OBERDICK" أن "روفينوس" قَتلَ مع أذينة ابنه الأكبر سبتيموس خيران. ولكن الأرجح أن سبتيموس، هذا الرجل حكم تدمر زمناً ليس بطويل، وتحاشى خلال ذلك الاصطدام بالرومان. وحين توفي سبتيموس خيران خلفه أذينة على شؤون المدينة" ولم يرد نسبه في النصوص فلا ندري إن كان ابناً أم شقيقاً لـ(سبتيموس خيران) وقد ذهب بعضهم إلى أنه كان أخاه" ونحن نرجح هذه الرواية، لأن "معني أو Maeonius" ابن خيران، انتقم من عمه، كما سنرى، شر انتقام، تحت شعار أنه انتزع الملك منه."‏

وكان أذينة الثاني "شجاعاً فارساً ألف حياة البداوة، جريئاً محباً للصيد، ولا سيما صيد الذئاب والفهود والأسود. تولى قبل انتقال الحكم إليه قيادة الجيش والقوافل ورئاسة قبائل البادية، فكانت له مؤهلات خاصة وكفايات حسنة، مكنته من رفع شأن تدمر في أعين الرومان، ومن تكوين اسم لها عند رجال الدولتين المتزاحمتين".‏

وما إن وصل أذينة الثاني إلى هذا المنصب حتى بدأ السعي إلى الأخذ بثأر أبيه أذينة الأول، من قاتله "روفينوس- الذي يبدو أنه كان يحتل مكانة مرموقة في الامبراطورية، وإلا لما اضطر أذينة إلى مخاطبة القيصر "فالريان" طالباً إليه إنزال العقاب به. ولكن فاليريان لم يعبأ بهذه الشكوى. فما كان من أذينة إلا أن فكر باللجوء إلى الطرف الآخر. تطبيقاً للمثل القديم "عدو عدوك.. صديقك".‏

كان هذا عام 259م. وقد احتدم القتال خلاله بين العدوين اللدودين: الروم والفرس، غير أن مكريانوس قائد الامبراطور فاليريان خانه، فوقع هذا أسيراً في أيدي الفرس على مقربة من "الرها".‏

بين أذينة والفرس‏

شعر أذينة أن اللحظة المناسبة للانتقام، عن طريق الفرس قد حانت "فأرسل رسلاً إلى "سابور" -الملك الفارسي- حمّلهم هدايا كثيرة، وكتاباً يتودد فيه إليه ويظهر رغبته في مصالحته ومحالفته. فلما بلغ الرسل معسكر الملك وطلبوا ملاقاته لإبلاغه الرسالة، استكبر عليهم وتجبر، وأظهر عجبه من تجاسر "شيخ" على الكتابة إليه ومخاطبته، مع أنه "ملك الملوك" وهو رئيس مدينة في بيداء قفرة لا قيمة لها ولا أهمية. ومن يكون أذينة! هذا الرجل الذي دفعته حماقته إلى التجاسر على سيده بالكتابة إليه، كما ينقل الدكتور جواد علي؟ فإن كان له أمل في عقوبة خفيفة، فليأت إليّ ويداه مغلولتان. وإن لم يفعل فليعلم بأني سأهلكه وأهلك أسرته وأنزل بمدينته الدمار. ثم مزق الرسالة، ورمى بالهدايا تحت قدميه -وقيل: أمر برميها في النهر- فعاد الوفد كاسف البال خائفاً مما قد يقوم به هذا الملك المغرور الطائش، من عمل تجاه مدينة خسرت الرومان، ولم تحظ بالاتفاق مع الساسانيين."‏

"ولما رجع الرسل إلى تدمر وأعلموه بما جرى، قرر الأخذ بثأره من هذا الملك المتغطرس الطائش، فجمع القبائل بظاهر تدمر وجعلها تحت إمرة ابنه "هيرودس" وضم إليها فرسان تدمر بقيادة "زبدا" كبير قواده، وقوّاسيها بقيادة "زباي" وهما من آل سبتيموس، أي من أقرباء أذينة، وحشد معهم بعض الكتائب الرومانية وفلول جند (والريانوس) -فالريان- وسار على رأس هذا الجيش قاصداً المدائن -وهي طسيفون Ktesiphon للانتقام من (سابور) الذي كان قد انشغل بغزو الأنحاء الشمالية، ولإنقاذ القيصر من الأسر.‏

وفي أثناء زحف (أذينة) على المدائن، وصلت إليه أنباء تغلُّب القائد الروماني (كاليستوس) على الفرس وتشتت شملهم وهربهم، فغير اتجاهه وأسرع إليهم لملاقاتهم، وقد أدركهم قبل تمكنهم من عبور نهر الفرات إلا بعد تعب." سنة 260م. واصطدم أذينة مع جيش سابور في معركة عنيفة على ضفاف الفرات انتهت بهزيمة الفرس هزيمة نكراء. وتتبع أذينة فلول الجيش الفارسي حتى أسوار المدائن، لكنه لم يستطع تخليص فالريان من الأسر.‏

بدء المشروع العربي‏

وكان في هذه الأثناء قد راسل غالينوس بن فالريان، فأنعم عليه بلقب قائد جنود الرومان في الشرق Dux Romanorum ومنح نفسه في الآن ذاته لقب (ملك الملوك).‏

كان واضحاً أن أذينة الثاني، يريد شيئاً، من وراء مناوراته وتكتكاته مع الفرس والروم، هو أبعد في الواقع من مسألة الثأر لأبيه القتيل غدراً. فهو يريد استرجاع الأراضي العربية التي احتلها الفرس وضموها إلى امبراطوريتهم، خلال الزمن الذي كانوا ينظرون فيه إلى ملك تدمر أو زعيمها.. على أنه "شيخ" قبائل أو عشائر لا أكثر. وهكذا استطاع أن يستعيد كثيراً من الأراضي والمدن المحتلة بينها "نصيبين" و"الرها" و"حران" فاستقبل هو وجنوده استقبالاً عظيماً. وكان الناس يذكرون بازدراء غالينوس الذي تركهم فريسة للفرس.‏

كان أذينة يهدف أيضاً إلى استعادة السيطرة على طرق المواصلات والتجارة مع الهند التي اضطربت مع ظهور الساسانيين.‏

ولقد أحب خلال ذلك أن يتوج انتصاراته على سابور بالدخول إلى عاصمته "المدائن" فشدد الحصار عليها.. إلا أنه اضطر إلى الانصراف عنها، بعد الأخبار التي تلقاها عن القائد الروماني "مكريانوس" وهو نفسه الذي خان امبراطوره وأوقعه أسيراً في أيدي الفرس ذاك أنه نصب نفسه "قيصراً على آسيا الصغرى ومصر وفلسطين والشام"(33). ويبدو أنه جعل حمص عاصمته، فاتجه أذينة بجيشه نحوه، فما إن تحرك حتى جاءه نبأ مقتل " مكريانوس"، لكنه تابع باتجاه حمص ذاك أن "كياثوس بن مكريانوس" تولى الأمر بدل أبيه. وأمام سور حمص، حيث كان أذينة يحاصر المدينة ألقى قائد روماني آخر هو "كاليستوس" رأس "كياثوس" بين قدمي أذينة وفتح له ابواب المدينة، بعد أن التمس منه الأمان.‏

دولة تدمر العربية‏

وهكذا دخل القائد العربي المدينة العربية التي كانت تعبد الشمس، مثلما تعبدها تدمر. دخلها متوجاً انتصاراته عام 262م. ورغم ما سيحدث بعد قليل، فإن في الإمكان، اعتبار هذه السنة عام تأسيس دولة تدمر العربية الكبرى.‏

ومع ذلك فإن أذينة لم يقطع خيوطه مع روما. فقد أظهر ولاءه، مجدداً بأن أرسل إليها نفراً من مرازبة الفرس الذين قبض عليهم عندما تعقب القوات الفارسية في الجزيرة. فرضي عنه قيصر الروم، وجعل تحت إمرته جميع القوات الرومانية المعسكرة في الشرق، وكلفه تعقب فلول المنشق "مكريانوس".‏

وكثرت ألقاب أذينة، منها ما منحه نفسه كلقب "ملك الملوك" ومنها ما منحه إياه القيصر الروماني كلقب "امبراطور جميع الشرق" وفي رواية أن مجلس الشيوخ الروماني منحه لقب "اغسطس" فصار مساوياً للقيصر.‏

وبدا أذينة ينصرف إلى تنظيم مملكته الجديدة وتدبير شؤونها، "فمنع تعصب الوثنيين على النصارى واضطهادهم لهم، ومنح كل طائفة حريتها في ممارسة شعائر دينها، وخوّل النصارى بناء الكنائس حيث شاؤوا" ووطد الأمن والأمان في مختلف أنحاء الدولة.‏

ورغم مرور الوقت إلا أنه لم ينس الإهانة التي وجهها إليه "سابور" ملك الفرس، ولم ينس أنه فك الحصار عن "المدائن" مكرهاً، فسمى ابنه البكر من زوجته الأولى "هيرودس" نائباً عنه في إدارة شؤون المملكة، وتوجه بجيشه نحو "المدائن" التي عادت إلى إغلاق بواباتها واستعدت للحصار..‏

ولسنا ندري الزمن الذي بقي فيه جيش تدمر حول أسوار "المدائن" لكن حادثاً خطيراً جرى وأرغم أذينة، على تبديل خططه العسكرية وفك الحصار، فقد عبر "القوط" البحر الأسود، ونزلوا بميناء "هرقلية" وزحفوا باتجاه آسيا الصغرى، فاحتلوا عدداً من المدن، وهم يأملون احتلال البلاد جميعاً بما في ذلك بلاد الشام، في أثناء غياب أذينة عنها.‏

المؤامرة الكبرى على أذينة‏

لقد ترك أذينة "المدائن" وعاد مسرعاً إلى بلاده، فولى "القوط" الأدبار هاربين.. وعادوا من حيث أتوا.‏

ومنح أذينة جنوده استراحة يمضونها معه في حمص، ريثما يمسون على استعداد لمعاودة السير نحو "المدائن" التي كان يصر أذينة على فتحها.‏

وأقام أذينة وليمة كبرى في عيد ميلاده حضرها قواده وكبار القوم وبينهم: معني أو معنيوس Maeonius ابن أخيه خيران.. الذي كان يعتقد أن عمه اغتصب الملك منه عندما توفي والده خيران.. ويبدو أنه كان قد دبر المؤامرة كاملة مع عصبة من رجاله، فانقض على عمه أذينة وابنه هيرودس وقتلهما معاً، غير أنه لم يستمر في الملك إلا أياماً قليلة، فقد انتقمت منه سيوف حمص.. وظهرت على مسرح الأحداث "زنوبيا" زوجة أذينة الثانية، وصية على ولي العهد ابنها "وهب اللات".‏

ثمة أسئلة كثيرة تطرح حول اغتيال أذينة الثاني، وقد طرحها المتعمقون في تاريخ "تدمر" والباحثون فيه، وأجابوا عنها أجوبة مختلفة. وكما يقول الدكتور جواد علي فمنهم "من رأى أن الجريمة هي انتقام شخصي بسبب اغتصاب "أذينة" حق القاتل الذي ورثه عن أبيه. ومنهم من رأى أنها مسألة مدبرة ومدروسة وأن للزباء "زنوبيا" يداً فيها. ومنهم من رأى أنها بتدبير الرومان وعلمهم. ومنهم من رأى عكس ذلك: رأى أنها فاجعة للرومان وخسارة كبيرة لسياستهم في الشرق، وأنها من أعمال الوطنيين الذين رأوا في ملك تدمر أداة طيعة مسخرة في أيدي سادة روما فقرروا لذلك الانتقام منه."‏

الزباء في التاريخ العربي‏

على أن هذا المؤرخ يرفض أخيراً أن يبت في سر قتل أذينة وابنه عام 266 أو 267م.‏

هناك شخصيتان اثنتان عرفتا في التاريخ العربي القديم، الجاهلي قبل الإسلام عرفتا باسم واحد هو "الزباء". وهناك عدد من المؤرخين العرب كالدكتور جواد علي والدكتورة ليلى الصباغ يدعون زنوبيا نفسها "الزباء".‏

الأولى هي نائلة -كما يذكر الطبري- والزباء -كما يروي السعودي- غير أن الاثنين يتفقان على بقية اسمها "بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر" - العمليقي: الطبري-‏

وعندما آل إليها الملك عزمت على غزو "جذيمة" الأبرش ملكِ عرب الضاحية النازلين بين "الحيرة" و"الأنبار" في بادية العراق. وكان قد قتل أباها عمرو بن الظرب. لكنها، بناء على نصيحة أختها اصطنعت الدهاء معه ودعته إلى نفسها، وأن يضم ملكه إلى ملكها، فلما قبل وجاء إليها قتلته، فانتقم منها خليفته عمرو بن عدي، وهو ابن أخت جذيمة الأبرش بواسطة قصير بن سعد اللخمي في حكاية مشهورة. ولما تمكن منها قصير في كمين محكم وسط مدينتها، حاولت الهروب عن طريق نفق لكنه أدركها فمصت السم الموجود في خاتمها وانتحرت.‏

أما زنوبيا، فهناك إجماع بين المؤرخين المعاصرين، على عدم ورود ذكرها بين المؤرخين العرب الكلاسيكيين، ولعل هذا هو الذي أدى إلى التباس أخبارها واختلاطها بأخبار الزباء -الأولى- ومعظم أخبارها مستقى من كتابات المؤرخين الغربيين. وكما يقول د. جودة شحادة، فهناك في متحف دمشق قطعة نقدية فريدة، سكّت في الاسكندرية أو أنطاكية، كتب عليها "سبتيميا زنوبيا".‏

وثمة قطعة نقدية أخرى باسم "زنوبيا" موجودة في متحف "اللوفر" ومنها نسخة جصية.‏

وعلى عمود عال في شارع الأعمدة في تدمر تمثال لزنوبيا أقيم في آب 271م وقد نقشت عليه كتابة باللغتين اليونانية والتدمرية ماتزال واضحة حتى اليوم، وهذا نصّها:‏

"إلى سيدتهم سبتيميا زنوبيا أكثر الملكات شهرة وتقوى، وإلى القائدين الممتازين بلقب سبتيموس، وهما زبدا القائد العام وزباي قائد الموقع في شهر آب من عام 582".‏

يقول د. جواد علي إن الكتابات التدمرية ذكرتها على هذه الصورة "بت زباي" أي: بنت زباي. وزباي هو اسم والد الملكة، حذفت كلمة (بت) وهي (بنت) في العربية وقلب الحرف الأخير وهو الياء من كلمة (زباي) وصُيِّر همزة، فصار زباء، وعرفت ملكة تدمر عند العرب باسم (الزباء).‏

حول نسب زنوبيا وشخصيتها‏

ذكر المؤرخ (فلافيوس فوبسكوس Flavius Vopiscus، أن والد الزباء رجل من تدمر اسمه (اخليو Achilleo) وهو في رواية أخرى (انطيوخس Antiochus)(41).‏

وهناك روايات تفيد أن زنوبيا ادعت أنها من مصر، من سلالات الملوك، وأنها من صلب الملكة الشهيرة كليوباترا، وأنها كانت تتكلم المصرية بطلاقة، وأنها ألّفت كتاباً، وضعته بخط يدها، اختصرت فيه ما قرأته من تواريخ الأمم الشرقية ولا سيما تاريخ مصر.‏

مهما يكن من أمر، فليس بين أيدينا، معلومات عن نسب زنوبيا كتلك التي ذكرها بعض المؤرخين العرب حول أصل سمّيتها الأخرى: الزباء.‏

ولئن كان من العسير أن تقال كلمة حاسمة في مسألة نسبها، فلا شيء لدينا يدعونا إلى الشك في أصالة مشاعرها ومواقفها العربية الصريحة، وأن دولتها شيء مختلف عن دولتي الفرس والروم، ولا بد أن تكون لها شخصيتها وتميزها.‏

يذكر المؤرخ تريبليوس بوليو Trebellius Polio أنها كانت تتكلم اليونانية وتحسن اللاتينية وكذلك الآرامية.‏

وقد استقدمت مشاهير الرجال إلى عاصمتها مثل الفيلسوف الشهير (كاسيوس ديونيسيوس لونجينوس Cassuis Longinus) والكاتب المؤرخ (كليكراتس) الصوري و(لوبوكوس) البيروتي اللغوي الفيلسوف و(بوسانياس) الدمشقي المؤرخ و(نيوكوماخس) من زمرة الكتاب المؤرخين المتضلعين بالإغريقية التي كان يكتب لزنوبيا بها، وقد أمسى مستشارها.‏

كانت زنوبيا كزوجها "جريئة، خفيفة الحركة، وقد كرست قسطاً من وقتها لركوب الخيل والقنص. ويصفها المؤرخون بأنها كانت سمراء البشرة ذات أسنان لؤلئية وعينين واسعتين براقتين. وكانت بطانتها تحييها بالسجود على عادة أكاسرة الفرس. وفي المناسبات الرسمية كانت ترتدي حلة أرجوانية، بحاشية زينتها الحجارة الكريمة، وتطوق خصرها بنطاق تاركة واحدة من ذراعيها عارية حتى الكتف. وكانت تركب عربتها المحلاة بالأحجار الثمينة، وقد وضعت على رأسها خوذتها الرومانية المرصعة بالدر والجوهر". وكانت تستنقبل قوادها على مائدة مقّلدة سنة القياصرة والرومان، فتشرف على آنية من الذهب الخالص مرصعة بالأحجار الكريمة. ولم يضر ذلك الإسراف ببيت مالها، فقد كان في خزائنها كنوز ثمينة ومقادير عظيمة من الذهب، لم يكن لها مثيل إلا في خزائن كسرى.‏

في الوقت نفسه كانت زنوبيا مضرب المثل في العفة، ولا تشرب الخمر إلا في النادر، فإذا شربت مع قوادها تفوقت.‏

وكانت تخطب في جنودها بصوت رنان قوي. وقلما اعتلت السرير المحمول، مؤثرة امتطاء الجواد في أغلب الحيان. وذكروا أنها كانت تمشي على قدميها ثلاثة أميال أو أربعة مع الجنود، وأنها كانت تحتمل الشمس والغبار، وتصطاد مع زوجها أذينة في الأحراش والجبال.‏

من جانب آخر، فإن ثقافة زنوبيا الواسعة، وذكاءها المتوهج، وإحاطتها نفسها بباقة من أكابر الثقافة في عصرها، مكنتها من أن تدرك أهمية الأعمال الفنية العمرانية ودورها في إظهار عظمة الدولة وأبهتها. وإذا لم يكن في الإمكان أن يعزى إلى زنوبيا بناء الهياكل العظيمة في تدمر، ولا سيما معبد الشمس المعروف باسم "هيكل بعل" فقد أضافت إلى الآثار التي أبقاها أسلافها أبنية عظيمة وحصوناً عجيبة. وأمرت بإيصال الشارع الرئيسي، الذي كان يجتاز قلب تدمر -وطوله ألف ومئة متر- إلى باب قصرها الشامخ. وصرفت مبالغ كبيرة في تحصين أسوار مدينتها حتى استعصت على الجيش الروماني في أثناء الحصار الشهير عام 272م .‏

وعرفت تدمر الازدهار والرقي في أيام ملكتها العظيمة، فقد عمرت البراري، وجرت المياه ومهدت الطرق وشقت الشوارع. ثم امتد العمران في أيامها إلى ضفاف الفرات.‏

اليهود يكرهون زنوبيا‏