من سينجو يا وطن!
في حوارنا معها
تجاهد روز ذاكرتها لتصف شكل الحياة في تلك السفينة التي لم ينجو منها لا صالحٌ ولا فاسد، إلا القليل.
روز: لم تكن سفينة فحسب؛ بل كانت إحدى العجائب الفاتنة.
ومن بناها إذاً؟
روز : يقال مهندس مشهور بارع، ممن يلتصقون بأي إنجاز لم تتلوث أظافرهم منه، في الحقيقة من بنوا السفينة هم من نفس الفئة الكادحة التي دفنت تحت أحفار سور الصين العظيم وأهرامات مصر وغيرهم، هم المنسيون حتى من قصتنا هذة.
لكن التاريخ يقول أن عمال السفينة لم يموتوا هكذا!.
روز: قد تختلف الطريقة لكن الموت واحد على كل حال، سأحكي لك حتى تفهم، كانت السفينة تحمل كبار القوم والكادحين وجنود حماية الكبار، كبار القوم كانوا ينظرون إلى العمال كعبيد، والعمال كانوا يرونهم أوغاد لصوص، لكن كونك من الطبقة الأدنى محرم عليك إبداء أي شئ من آرائك ومعتقداتك، عكس الأسياد.
كان صمود السفينة معتمد منذ نشأتها على عرق هؤلاء الكادحين، كانوا يحترقون مع الفحم عند محركاتها، بينما نحن كبار القوم نستمتع عاليها، نحن نلهو فوق رؤوسهم، لو ماتوا سنموت نحن أيضا، حياتهم كانت مهمة لدي الكبار، حياتهم فحسب، طالما يتنفس ويعمل فهو حي بالنسبة لهم.
كانوا بسطاء ساذجين، تجبرهم قسوة الحياة إلى إظهار وحشية طالما إستغلها الأوغاد في تبرير كم أن هؤلاء كالحشائش الضارة التي يجب قصها، لو كان لديك حيوان لا تريده في حديقتك لكن صغيرك يحبه، فقط إمنع عنه طعامه، وسيتحول لشئ مفترس، حينها لو قتلته تستطيع بسهوله أن تقنع الجميع أنه كان لا يستحق الحياة، كانوا يحملون قلباً مثقلاً بالهموم؛ لكنه صادقاً؛ صافياً كقلب جاك.
ومن كان جاك؟
روز : كان رجلاً بقلبٍ سليم، ترى ذلك رغم هيئته المنهكة، كان أحد هؤلاء، كان أملهم في كل شئ لا ينتظرونه على متن تلك الحياة، أحببت كفاحة، إيمانه بقضية هؤلاء البشر رغم ضبابية واقعهم، رغم كل ذلك أحبني كثيراً، أعطاني ما حرمتني منه الحياة الخادعة، أن تشعر أنك إنسان يمكنك فعل أي شئ دون أن يقيدك البرستيج الطبقي أو ذلك الإحتراس الممل، كانوا يسرقون بالقوة من حياتهم البائسة أصفى وأجمل ما فيها من حبٍ، يفرحون كأنهم يملكون بالقليل كل شئ، ونحن كان لدينا كل شئ، كل الأشياء التي تَرفّعت بها حياتنا حتى أصابتها التعاسة.
لم ترى قصتنا العظيمة النور، خِفتُ عليه، لأنه وببساطة لم يكن فوق السفينة، وما دون فوقها قبور للأحياء أموات، كان لو أظهر شاب على متن السفينة شجاعته في حب فتاة تعلوه شأنا، فليظهر شجاعته في الإتيان بمهرها، وهي نفقات تعادل أن تجوب ذلك البحر طولاً وعرضا تعمل حتى ينهكك الموت، هم لن يقولون لك لا، ولكن يعرفون كيف يعجزونك.
وفي لحظة من الغفلة، تعرضت السفينة لإصطدام كان بداية غرقها، الهلع سيطر على كل شئ، لابد لجنود الحماية أن تجد حلاً، ما كانوا يحصلون عليه مقابل الحماية كان مقنعاً لما حدث بعدها، بدأت قوارب النجاة في الظهور، يجب أن يُنقل الركاب على الفور، ولكن أي ركاب!، قد عمّت الفوضى أعلى السفينة، والجميع هناك عمال وكبار، وهنا ظهرت وحشية جنود الحماية تجاه العمال، لقد كانت لحظات حاسمة؛ وفي اللحظات الحاسمة بإمكانك أن تعرف كل الحقائق وأن ترى بالعين التي أخفيتها خوفاً ورغماً عنك، بدأ الجنود بعمل حواجز تمنع العمال، والسيطرة على بعضهم بزجهم داخل القبو الذي تحول لجزء من المحيط، بدأت الأمور تتضح أكثر؛ النجاة تبدأ من أعلى الطبقة العليا، جاك ينادي على والده لا يجده، علم بأمر القبو سريعا، قد يكون هناك، كانت أخر لحظة أراه فيها؛ فقد حان دورنا للرحيل، إكتشفت أن الجندي الذي كان برفقتنا بالقارب كان يعرف قصتنا، فقد همس لي قائلاً " للأسف؛ لقد تأخر في كسر باب القبو" تلك الكلمات كانت كافية لفهم ما حدث لجاك.
لم ينجوا الجميع؛ لم تكن القوارب كافية، ولم تكن لتتحمل السفينة أكثر ، فقد كانت مثقلة بوسائل المتعة الباهظة الثمن، لكنها غرقت كما غرق الكادحين معدومي الثمن.
أنهت روز كلامها هنا؛ لكني لم أُنهي كلامي، يبدو أن تلك المشاهد مألوفة إليك، يبدو أنك تعرف قصة تايتنك أو شاهدت الفيلم، لكني لم أتحدث لأسرد لك حكاية قديمة.
ألم تدرك أن تلك السفينة هي الوطن الذي نحيا به الآن!، ألم تدرك أن الأوبئة والحروب قد جعلت سفينتنا تغرق شيئاً فشيئا! ، ألم تدرك أن تلك القوارب هي تلك المدن التي تُشيد بدم وعرق الكادحين لكي تكون وطناً وملازاً للأوغاد!، ألم تدرك أن مشهد الجنود وهم يمنعون العمال من النجاة هو تلك المشاهد التي نراها عند أبواب المستشفيات المغلقة في وجة شعب يحتضر، وفي القطارات المنقلبة والعبَّارات وفي الهواء الطلق الخانق، ألم تدرك أن مشهد القبو هو المشهد السائد داخل كل السجون،ألم تدرك أن روز ذكرت نفس الأسباب التي تعيق الشباب هنا عن الزواج،الهلع يجوب البلاد لكنه لا يمنعك عن الرؤية في وقتٍ تتجلى فيه الحقائق.
وسط كل هذا أريدك أن تدرك حقيقة واحدة؛ وهي أن هذا الوطن ينقسم إلى الفئتين التي أعتقدهما ركاب السفينة؛ أوغاد وعبيد.