مرض العصر "الاكتئاب"
كتب الرسام فنسنت فان جوخ "Vincent van Gogh" رسالة لأخيه، يصف فيها مُعاناته من مرض "الاكتئاب" الذي كان مُصاباً به، قال فيها: "يشعر المرء كما لو أنه قد ألقي مكبّل اليدين والقدمين في قاع بئر مظلم وعميق عاجز تماماً عن الخروج منه".
عاشَ فان جوخ فترات عصيبة بسبب الاكتئاب، حتّى وضعَ حدّاً لعذاباتِه النَّفسية والرُّوحية حيثُ أطلقَ على نفسه رصاصة منهياً حياته. كان السبب هو مرض الاكتئاب الذي سُمّي بـ "المالنخوليا" عند اليونانيين في العام 400 قبل الميلاد "Melancholy.
قد يُصيب الاكتئاب كل شخص ولو لمرة واحدة في حياته، وتَنتاب المُكتئب مشاعر الحزن أو البكاء، أو الخواء، أو اليأس. كما ويفقد مريض الاكتئاب الاهتمام أو المتعة في معظم الأنشطة الحياتيّة العادية أو جميعها، مثل الهوايات أو الرياضة، وتصبح الحياة لديه تافهة، خالية من أي معنى.
أصبح الاكتئاب في عصرنا الحالي مرضاً شائعاً، حيث يعاني منه نحو 280 مليون شخص في العالم، وفي الوقت الذي يشعر فيه بعض الناس بالحزن أو الإرهاق في بعض الأحيان، يعاني مرضى الاكتئاب بشعور مزمن بالفراغ، أو الحزن، أو عدم القدرة على الشعور بالمتعة في أي نشاط يمارسونه في حياتهم، ويشعرون كما لو أن الحياة لا تستحق العيش.
تعريف الاكتئاب وانتشاره
يختلف الاكتئاب عن تقلبات المزاج المعتادة والانفعالات العابرة إزاء تحديات الحياة اليومية.
يُعرف طبيّاً بأنه اضطراب المزاج الذي يسبب شعوراً متواصلاً بالحزن، وقد يكون مصحوباً بالشعور بالذنب، ونقص تقدير الفرد المصاب لذاته. عادة ما يصاحب المرض مجموعة من الأعراض الجسدية مثل التغير في الشهية، لكن في شرط ألا تكون الأعراض ناتجة عن أي حالة مرضية جسدية، أو نفسية أخرى قد تكون مسؤولة عن تلك الأعراض.
قد يتحول الاكتئاب إلى حالة صحية خطيرة، لا سيما إذا تكرر حدوثه بحدّة متوسطة أو شديدة، ويمكن أن يؤدي إلى معاناة شديدة للمصابين به، يؤثّر على أدائهم في جميع مناحي الحياة، العمل والمدرسة والأسرة.
انتشار الاكتئاب
يعاني 5% من البالغين في العالم من الاكتئاب، حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية حول هذا الاضطراب الشائع وانتشاره، حيث أكدت المنظمة أن هذا المرض من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً، حيث يصيب أكثر من 300 مليون شخص حول العالم، كما أنه قد يؤدي إلى العجز بل انه في أسوأ حالاته، يمكن أن يفضي إلى الانتحار، حيث ينتحر بسببه كل عام أكثر من 700,000 شخص.
يؤثر الاكتئاب على واحد من كل 15 بالغاً بنسبة 6.7٪، ويصاب واحد من كل ستة أشخاص بالاكتئاب في وقت ما من حياته، ويمكن أن يحدث الاكتئاب في أي وقت ولكن في المتوسط يظهر لأول مرة خلال فترة المراهقة المتأخرة حتى منتصف العشرينات. تُعدّ النساء أكثر عرضة من الرجال للإصابة بالاكتئاب، وتظهر بعض الدراسات أن ثلث النساء سيعانين من نوبة اكتئاب شديدة في حياتهن. كما ويوجد درجة عالية من التوريث لهذا المرض بنسبة 40٪ عندما يعاني الأقارب من الدرجة الأولى "الآباء، الأطفال، الأشقاء" من الاكتئاب.
الأعراض، الهواجس والتفكير بالانتحار
خلال نوبة الاكتئاب، يعاني المريض من تكدّر المزاج، ومن الممكن أن تختلف الأعراض لديه من خفيفة إلى شديدة وتشمل الشعور بالحزن، وفقدان الاهتمام أو الاستمتاع بالأنشطة التي كان يتمتع بها المريض سابقاً. بالإضافة إلى تغيرات في الشهية "فقدان الوزن أو اكتسابه"، وصعوبة النوم أو النوم لفترات طويلة، وفقدان الطاقة أو زيادة التعب "الوهن العام"، وانخفاض في الرغبة الجنسية.
يصيب المريض أيضاً زيادة في النشاط البدني غير المقصود "على سبيل المثال، عدم القدرة على الجلوس بلا حراك، أو السرعة، أو شدّ اليد" أو تباطؤ الحركات أو الكلام. يجب أن تكون هذه الأعراض شديدة بما يكفي بحيث يمكن ملاحظتها من قبل الآخرين لكي يسمى اكتئاباً.
في النهاية وعند تفاقم المرض يشعر المكتئب بعدم القيمة أو بالذنب، وصعوبة في التفكير أو التركيز أو اتخاذ القرارات، وينتهي به الأمر مستسلماً لهواجس الموت أو الانتحار.
السياق التاريخي لتسمية المرض
في عام 400 قبل الميلاد، افترض الفيلسوف اليوناني أبقراط أن جسم الإنسان يحتوي على أربع سوائل أساسية: الدم والكدرة السوداء والكدرة الصفراء والبلغم.
يصبح الإنسان مريضاً في حال اختل توزان أحد هذه السوائل في الجسم. إن زيادة الكدرة السوداء يمكن أن يسبب شعور الشخص باليأس والخوف، ويسمي اليونانيين هذه الحالة بالمالنخوليا، وقد كان المصطلح الأول الذي تم اطلاقه على الاكتئاب، وهو الطريقة الأولى التي خضعت للدراسة والتشخيص. خلال عصر النهضة، اعتبر الأوروبيين "المالنخوليا" على أنها علامة للعبقرية الإبداعية، والتي يتم تمجيدها من خلال الفنون والموضة والأعمال المكتوبة، لكن مع مرور القرن الثامن عشر، عاد المصطلح إلى أصوله الطبية.
خلال القرن التاسع عشر تم استخدام مصطلح الاكتئاب كمرادف للمالنخوليا وتم تطوير استخدام هذا المصطلح من قبل العالم سيغموند فرويد إلى ما يسمى بالاكتئاب المالنخولي.
تعتبر وفاة أحد الأحباء أو فقدان الوظيفة أو إنهاء العلاقة، تجارب يصعب على الشخص تحملها،
ومن الطبيعي أن تتطور مشاعر الحزن استجابةً لمثل هذه المواقف، وغالباً ما يصف أولئك الذين يعانون ويكابدون الخسائر المفجعة أنفسهم بأنهم "مكتئبون"، لكن الشعور بالحزن لا يعني الإصابة بالاكتئاب.
التمييز بين الاكتئاب المرضي واكتئاب الحزن
عملية الحزن طبيعية وفريدة من نوعها لكل فرد، وتشترك في بعضها مع سمات الاكتئاب. قد ينطوي كل من الحزن والاكتئاب على حزن شديد وانسحاب من أنشطة الحياة المعتادة، لكن هناك اختلاف بين الحزن والاكتئاب يتمثّل بالفوارق الآتية:
في حالة الحزن، تأتي المشاعر المؤلمة على شكل موجات، غالباً ما تختلط بالذكريات الإيجابية للمتوفى، بينما في حالة الاكتئاب الشديد، تنخفض الحالة المزاجية، أو الاهتمام "المتعة" لأكثر من أسبوعين.
في حالة الحزن، عادة ما يتم الحفاظ على احترام الذات، أمّا في حالات الاكتئاب الشديد، تكون مشاعر كراهية الذات شائعة.
في حالة الحزن، قد تظهر أفكار الموت عند التفكير أو التخيل بشأن "الانضمام" إلى المحبوب المتوفى. بينما في حالات الاكتئاب الشديد، تركز الأفكار على إنهاء حياة المرء بسبب الشعور بعدم القيمة، أو عدم استحقاق العيش أو عدم القدرة على التعامل مع آلام الاكتئاب.
عندما يجتمع الحزن والاكتئاب سويةً!!
يمكن أن يتعايش الحزن والاكتئاب. بالنسبة لبعض الناس تؤدي وفاة أحد الأحباء، أو فقدان الوظيفة، أو الوقوع ضحية لاعتداء جسدي، أو كارثة كبرى إلى الإصابة بالاكتئاب، وفي هذه الحالة يحدث الحزن والاكتئاب معاً، ويكون الحزن أكثر حدة ويستمر لفترة أطول بدون اكتئاب.
في النهاية يعدّ التمييز بين الحزن والاكتئاب أمراً مهماً، ويمكن أن يساعد الأشخاص في الحصول على المساعدة أو الدعم أو العلاج الذي يحتاجون إليه.
ماذا تقول الدراسات الحديثة عن الاكتئاب؟
أصبحت الدراسة التي تُظهر أن الاكتئاب لا ينتج عن انخفاض مستويات "هرمون السعادة" المعروف باسم "السيروتونين"، أحد أكثر المقالات الطبية انتشاراً.
أثارت هذه الدراسة موجة من الادعاءات المضللة حول الأدوية المضادة للاكتئاب، والتي يزيد الكثير منها من نسبة "السيروتونين" في الجسم، ولا يُظهر البحث أن الأدوية ليست فعالة، ولكن طريقة التعامل معه أثارت تساؤلات حول نظرتنا للأمراض النفسية.
ماذا أظهر البحث؟
نظر هذا البحث الأخير في 17 دراسة ووجد أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب لا يبدو أن لديهم مستويات مختلفة من السيروتونين في أدمغتهم مقارنة بالأشخاص الذين لا يعانون من الاكتئاب.
تساعد النتائج في استبعاد إحدى الطرق المحتملة التي قد تعمل بها الأدوية "عن طريق تصحيح مستويات النقص"، ويشير الدكتور "مايكل بلومفيلد" استشاري الطب النفسي في كلية لندن الجامعية
إلى أن "الكثيرين منا يعرفون أن تناول "الباراسيتامول" يمكن أن يكون مفيدا للصداع، لكن لا أعتقد أن أي شخص يعتقد أن الصداع ناتج عن عدم كفاية الباراسيتامول في الدماغ".
التشخيص والأعراض
من حسن الحظ في عصرنا الراهن وجود علاجات فعّالة لهذا المرض، وبحسب حدة نوبات الاكتئاب ونمطها مع مرور الوقت، يمكن لمقدمي الرعاية الصحية أن يقدموا علاجات نفسية مثل التنشيط السلوكي، والعلاج السلوكي المعرفي، والعلاج النفسي التفاعلي، أو الأدوية المضادة للاكتئاب مثل المثبِّطات الانتقائية لإعادة التقاط السّيروتونين (SSRIs)، ومضادات الاكتئاب الثلاثية الحلقات (TCAs).
تستمر أعراض المصاب بالاكتئاب لمدة أسبوعين على الأقل ويجب أن تمثّل تغييراً في مستوى الأداء السابق لتشخيص الاكتئاب.
كيف يمكنك معرفة ما إذا كنت مكتئباً أم حزينا فقط؟
يقول "فريدمان" Friedman"" طبيب نفسي أمريكي أن الاكتئاب متلازمة تنطوي على ما هو أكثر بكثير من الحزن، وأنه بصرف النظر عن الحالة المزاجية الحزينة، يتسبب الاكتئاب عادةً في الأرق وفقدان الرغبة الجنسية والشهية والانسحاب الاجتماعي وانخفاض الطاقة ومشاعر اليأس والأفكار والمشاعر والأفعال الانتحارية.
يقول فريدمان: "إذا لم تكن متأكداً، فاسأل نفسك سؤالين فقط: كم مرة في الأسابيع القليلة الماضية فقدت الاهتمام والسرور بفعل الأشياء؟ كم مرة شعرت بالإحباط أو اليأس؟".
وأشار إلى استبيان خاص بصحة المريض، قائلاً: "إذا كانت نتيجتك ثلاثة أو أعلى، فهناك احتمال كبير أنك مصاب بالاكتئاب، وليس مجرد شعور بالضيق".
استند المقال إلى موقع
التعليقات