لنربط الأحزمة ونقلع سويًا في آلة الزمن ليوم 13 سبتمبر عام 1848م، لنشاهد العمال وهم متحمسون أثناء عملهم في وضع أسس السكك الحديدية في مدينة كافيندش. نرى هناك رئيس العمال فينياس غيج صاحب ال 25 عامًا، و هو يقوم بتعبئة حفرة في الأرض بالمتفجرات باستخدام قضيب حديد، إنه أمر طبيعي بالنسبة لعمال السكك. 

للأسف أجواء العمل المنظمة تلك لم تدم طويلًا، اشتعلت المتفجرات وأرسلت العمود الحديد الذي طوله 43 إنش وعرضه 1.25 إنش لأعلى. اخترق القضيب الخد الأيسر لغيج، ومزق دماغه، وخرج من جمجمته قبل أن يهبط على بعد 80 قدمًا.. لقد مات، هذا ما قلته بداخلي عند قراءتي للحادث، لكن لا! غيج لم يمت، ليس هذا فقط، فقد كان قادرًا على التحدث، والمشي، بل أيضًا كان في وعيه، وكان متذكرًا أسماء العمال الذين كانوا معه.

قضى غيج بضع أيام في السرير بسبب العدوى المصاحبة للحادث، وبعد شهر من الواقعة، كان غيج قادرًا على الخروج من المنزل!

الظاهر أن هناك معجزة حدثت، عمود حديدي يخترق الجمجمة والمخ، لكن الشخص جسديًا وعقليًا لم يتأثر..

هذا ما ظنناه جميعًا، أنا وطبيب غيج د. جون مارتن هارلو، وحتى عائلته وأصدقاء غيج..

"لم يعد هذا غيج الذي نعرفه" هذا ما قاله المقربون بعد عام من الحادث. غيج قبل الحادث كان معروف أنه مجتهد ونشيط ومحبوب، لكن الآن وصفوه بأنه تغير إلى شخص لا يعرفوه، شخص مدمن كحول شرس وعدواني وغير قادر على الاحتفاظ بوظيفته..

الإمكانيات وقتها لم تكن متاحة لتشخيص حالة غيج بشكل واضح، لكنها اكتفت فقط على ملاحظات د. هارلو، أن هناك تغييرات كبيرة في شخصية غيج أدت إلى تصرفات غير ملائمة.. ومات غيج بعد 12 عام من الحادث، لكن لم تمت معجزته معه. ففي دراسة عام 1994، قام الباحثون باستخدام تقنيات التصوير العصبي لتحديد موضع الإصابة، وكانت النتائج أنه عانى من إصابات في قشرة الفص الجبهي الأيمن والأيسر “Prefrontal cortices”، مما قد أدى إلى مشاكل في المعالجة العاطفية واتخاذ القرارات.

وفي دراسة عام 2004م، باستخدام أجهزة أكثر تطورًا بالتقنيات ثلاثية الأبعاد، وجدوا أن الإصابة كانت مقتصرة على الفص الجبهي الأيسر “Left frontal lobe”. ولأكثر دقة، في دراسة أخرى 2012م، استطاعوا أن يقدروا نسبة الضرر بحوالي 11% من ال frontal lobe.

نعم، كل تلك الدراسات قامت بسبب حادث غيج الكبير، حادث كان له تأثير هائل على علم الأعصاب. والتغييرات التي لوحظت في شخصية غيج كانت كفيلة لفتح الباب للعديد من النظريات حول توطين وظائف المخ، أو فكرة أن وظائف معينة مرتبطة بمناطق معينة من المخ.

اليوم أصبحنا ندرك أن لكل جزء من المخ وظيفة يقوم بها، مثلًا ال frontal lobe مسؤول عن المهام عالية المستوى مثل التفكير واللغة والإدراك الاجتماعي، بل أصبح لنا القدرة على تخصيص وظيفة لكل جزء من أجزاء هذا الجزء مثل ال Broca’s area المسؤولة عن الحديث، وال Prefrontal cortex التي يعتبرها بعض العلماء "The boss of the brain"، بل وربطها ب "نظرية العقل- Theory of mind" وعلاقتها بالمشاعر، والرغبات، والاعتقادات.

 كل مرة أكتب فيها عن مخ الإنسان أشعر أنني لا أريد أن أتوقف، كل معلومة ستأتي بعدها بمعلومة، وكل حكاية ستأتي بحكاية أغرب.. ممكن الغرابة تكمن في عدم قدرة مخنا على فهم نفسه، واستعجابه من قدرته على فعل كل تلك الأشياء!