مع كل خريف، تتحول بساتين الزيتون إلى مسرح نابض بالحياة. في الصباح الباكر، قبل أن يسطع نور الشمس كاملًا، تبدأ العائلة كلها في الرحلة: الجدات يحملن السلال بخفة رغم تقدم العمر، والأبناء يركضون بين الأشجار، والآباء يراقبون بحب وحذر. نفرد النايلون على الأرض لنلتقط الثمار المتساقطة، ونقطف الزيتون من الأغصان بعناية، كل حبة تحمل تعب الشجرة وفرح من يقطفها.

بعد ساعات من القطاف، يُنقل الزيتون إلى المعصرة. هنا يظهر التنافس الخفي بين المزارعين: كل واحد يفاخر بإنتاجه، أحدهم يصرخ بفخر: “مئة تنكة!”، والآخر يرفع حاجبه مبتسمًا: “مئة وعشرين!”، وثالث يعلو صوته: “مئة وخمسين!” كل واحد يسعى ليبرهن أن خبرته واهتمامه بالأرض أثمروا أفضل النتائج.

وعندما يصل الزيت إلى قواريره، يُخبأ بعناية بعيدًا عن الضوء، ليحافظ على نقائه وطعمه الحاد اللاذع. لا يكاد يمر طبق فول أو صحن لبنة في منزلنا من دون أن يزينه هذا الزيت البكر، مضيفًا نكهة لا تُنسى.

أما أجمل لحظات اليوم فهي حين تجلس جدتي أمام تنور الحطب، تُخرج لنا الخبز الطازج ذا الرائحة الذكية. ننهل منه بنهم، نغمس صحن اللبنة الطازجة في الزيت الذهبي، ونستشعر كل قطرة كما لو كانت تجسد الأرض بأكملها في مذاقها. ولا يكتمل المشهد إلا مع صحن القشطة الطازجة والعسل الجبلي الذي تغذى فيه النحل على أزهار شجر اللزاب والسدر، فيمنح كل قضمة لمسة من الحلاوة الطبيعية، وكأن الطبيعة نفسها تحتفل معنا.

في كل هذه اللحظات، يصبح الزيت أكثر من مجرد غذاء. إنه قصة الأرض والعمل والصبر، إنه الفخر بالجهد العائلي المشترك، إنه طعم التاريخ الذي يمتد بين الأغصان ويصل إلى أطباقنا، ليجمع بين النكهة والحنين، بين التراث والدفء العائلي، بين الجد والعمل والإبداع الصغير الذي يتحقق في كل قطرة زيت بكر.