في آخرِ يومٍ من أيامِ المراقبةِ في الدورِ الثالث للصفِّ الثالثِ المتوسط، كنا أنا وزميلتي نجلس في غرفةٍ يغمرها الصمت بعد أن غادرت جميع الطالبات، ولم تبقَ سوى واحدةٍ تنهي آخر أسطُر امتحانها. وفي ذلك السكون المائلِ إلى التأمل، انفتح بيننا حديثٌ عن النصيب، عن ذلك السرّ الذي إذا حضر أخرس الألسن، وأسكتَ كلّ "لماذا" و"لو أنّ".

بدأت زميلتي تسردُ لي حكايةً تشبه الأسطورة في واقعيّتها، حكايةَ أخيها الذي لم يُكمل نصيبه في زواجٍ كان يُفترض أن يتمّ منذ سنين، وكيف أن الأقدار خبّأت له طريقًا أطول كي يعود إلى ذات الباب ولكن بقلبٍ مختلف. كانت قد رغبت لإحدى زميلاتها في العمل، فتاةٌ رزينةٌ مهذّبة، فطلبتها لأخيها، لكنّ الفتاة رفضت آنذاك، معلّلةً الأمرَ بأسبابٍ مادية، ثم تزوّجت من آخر بدا للناس مثاليًا في وضعه واستقراره، لكنه كان يحمل في داخله فوضى من الشكِّ وسوء المعاملة.

مرّت الأعوام، وانطفأت أضواء تلك التجربة، حتى التقتها زميلتي صدفةً في مراقبةٍ أخرى. كانت ملامحها تقول ما لم تنطق به، لكنّها ما لبثت أن باحت: انفصلت.

ولم تكن زميلتي بحاجةٍ لأن تسأل، فالقصةُ خرجت منها بصدقِ الوجع.

تقول: “في ذلك اليوم كنت ذاهبةً إلى بيتِ أهلي، فجلست مع أخي وسألته: هل تذكر تلك الفتاة التي خطبتها لك يومًا؟” ثم روت له ما جرى معها، واقترحت أن يطلبها من جديد، فلعلّ النصيبَ لم يكن يومها حاضرًا، لكنه الآنَ عاد في توقيته الإلهيّ.

لم يمانع أخي. وعند لقائنا بأهلها، قال والدها والدمع يثقل صوته:

“ابنتي انكسرت، وأعلم أنك طلبتها من قبل ولم يكتب الله النصيب، أما الآن فقد صُدمت من جديد… فمن أعاتب؟”

فأجابت زميلتي بهدوءٍ وصدق: “عاتبني أنا.”

ابتسم الرجل وسط دموعه وقال:

“ها هو السيناريو يعيد نفسه، زوجها السابق يحمل الاسم ذاته، ويشبه أخاك في الملامح… لكن الفرق بينهما أن الأول كان اختبارًا، والثاني هو العوض.”

وتزوجا، وأنجبا أربع ورداتٍ يملأن البيت ضوءًا وبهجة.

هنا تتجلّى الحكمة التي تهتف بها الأيام في وجوهنا، وإن أنكرناها حينًا:

‏ما كُتب لك لن يفوتك، وما فاتك لم يُكتب لك.

فالقدر، مهما دار، لا يضيع وجهته. ومن كان يظنّ أن طريقين افترقا يومًا سيجتمعان مجددًا عند نفس الباب؟

‏وأنّ كلمةً عابرةً من أختٍ مشفقة، كانت في الأصل مفاتيح القدر، تُعيد ترتيب ما انكسر، وتحوّل الهزيمة الأولى إلى جبرٍ جميلٍ كتبه الله في موعدٍ آخر.