السؤال عن السكن بعيدًا عن الأهل، خصوصًا إذا كان العمل بعيدًا عن المنزل، يبدو بسيطًا، لكنه يحمل في داخله الكثير من المعاني العميقة. بالنسبة لي، أرى أن الإنسان يمر بمراحل في حياته، وكل مرحلة لها معناها وقيمتها، ولا يصح أن يقفز عليها متوهمًا أنه يحقق نضجًا أو تقدمًا.
كثيرون يعتبرون التسرع في الاستقلال نوعًا من الذكاء أو الطموح، لكنني أراه أشبه بمن ذهب لشراء شيء وسقطت منه نقوده في الطريق. إذا انتبه سريعًا، يمكنه استرجاعها بسهولة، لكن إن تأخر، قد يخسرها تمامًا. هكذا هو التسرع في الحياة: ظاهره شطارة، لكن عواقبه قد تكون خسارة لا تُعوض.
نعيش مراحل تبدأ من الطفولة، ثم الشباب، وهذه مراحل لا تحمل فقط ذكرياتنا الشخصية، بل هي أيضًا لحظات عاطفية عميقة لوالدينا. أن أكون في البيت وأنا أدرس، أقدّم لوالدتي نجاحي في الشهادات، وأعيش معها تفاصيل النمو، هو أمر لا يجب التفريط فيه. ليس من الضعف أن أبقى في منزل أهلي، بل هو وعي بأن لكل مرحلة وقتها.
بعد المرحلة الثانوية، تبدأ التغيرات تدريجيًا. نخرج إلى الجامعة، نبدأ نضجنا الفكري، نخوض تجارب في العمل، في العلاقات، في السفر. ومع الوقت، يصبح الاستقلال أمرًا طبيعيًا وليس قرارًا فجائيًا. بل حتى الأهل أنفسهم، سيشعرون أنه الوقت المناسب، وقد يدفعونك إليه بحب وفخر.
الحياة بالنسبة لي تشبه دائرة. نولد وحدنا، ثم نعيش كأبناء، نصبح أزواجًا، ثم آباء، ثم أجدادًا، ونعود في النهاية إلى وحدتنا. هذه المراحل لا يصح حرقها أو القفز فوقها، لأن كل واحدة منها تمنحنا شيئًا خاصًا لن نعيه إلا لاحقًا. الاستقلال لا يجب أن يكون هروبًا، بل خطوة واعية.
أنا لا أرى أن الانفصال المبكر عن الوالدين قرار سليم. بل أفضّل أن يتم ذلك عندما أكون قد بنيت نفسي، وبدأت في تكوين عائلتي الخاصة. حينها لا يكون الانفصال مفاجئًا أو مؤلمًا، بل طبيعيًا. أما إذا تم قبل الأوان، فقد يخلف فراغًا عاطفيًا يصعب تعويضه.
نحن لا نولد مستقلين، بل نُربى تدريجيًا على الاستقلال. وكل مرحلة تُعاش بصدق، تضمن انتقالًا ناعمًا وسليمًا للمرحلة التالية. المهم أن نفهم أننا لسنا في سباق، بل في رحلة، وكل لحظة فيها تستحق أن تُعاش بعمق ووعي، لا بسرعة وتسرع.
التعليقات