_ هل أقول عن نفسي الوافد الجديد إلى عالمكم ؟ طبعاً لا ، فقد كنت في عالم يشبه عالمكم ، متميز صاحب إرادة كبيرة و شغف لا ينتهي ، صاحب الفكر المتوهج المتلهف لنشر كل الأفكار التي في رأسه ، و لكن لكل ذروة سقوط أليس كذلك ، و لقد وصلت للذروة أين اصطدمت بالواقع المأسوي الذي لا أرغبه لكم ، هذه قصتي و هذا أنا الكاتب الذي لا يفتخر بكونه كاتب و إنما ... مجرد عابر سبيل
_ من أكون ؟ كاتب ، و من كنت ؟ مجرد صبي طائش يمزح بنية مع الجميع ، حتى أكثر أفكاره الخبيثة لا تخلو من الطيبة ، سأختصر النقطة التي منها تحولت حياتي كُلياً إلى شيء لم أتربى عليه ، أن أكتب ، بالطبع لولا مساعدة صغيرة من أستاذ مهتم ، أو أقول أستاذة ، دفعتني إلى ما أنا عليه اليوم ، من مجرد صبي ، إلى فتى يُجيد التفكير ، و بعد الكثير من المحاولات ، يبدأ هذا الفتى طريقه في الكتابة ، يكتب المقالات ذات الأخطاء الفادحة ، و لم يهتم بها لأنه يملك الكثير من الثقة بأنه سوف يوصل تلك الرسالة ، و تطور الوضع على نحوٍ جيد ، حتى أصابه الملل من النشر الإلكتروني ، أين قفز أولى خطواته في أن ينشر ورقياً ، الكثير من الحماس ، و الكثير من الأحلام ، يُغلق عيناه و يرى نفسه في جلسة مع المهتمين يسألونه كيف حتى أتته الأفكار ؟ و هو يترفع عن الاسئلة الغبية أو يجيب محاولاً إبراز ما يريد إبرازه من الثقافة ، يرى نفسه أمام الكثير من الطموحين و هو يريد أن يشعل طموحهم أكثر و يشجعهم على ذلك ، بدأ ذلك الفتى بكتابة أولى رواياته ، لا أقول الأولى و إنما كانت هنالك أربع روايات قبلها حاول فيها أن يكتب لمدة أطول ، و اكتسب ذلك الصبر حتى انطلق في الامر الجدي ، الامر الرسمي الأول له ، رواية من نسج خياله و البعض منها من أحداث واقعية حدثت في مدينته عن شخص مختل عقلياً رأه مرّتين فقط في حياته و تأثر بقصصه الغريبة ، فرأى أنه حينما يعرضها في كتابه مثلما يفعل الأدباء المحترفين الكبار و التقليديين في كتابة الروايات ، رأى أنها فرصته لينطلق في عالم الكتابة ، و بالطبع لا يكفي أن ينشر روايته دون مقابل مالي ، فعمل ذلك الفتى طوال الصيف يبيع الخضروات لصالح شخص منحه فرصة أن يعمل لأول مرة في حياته ، فعمل ذلك الفتى بجد و لم يقبض أجره جيداً ، لكنه تحمل ذلك و تحمل عدم تحمل أهله تكلفة أحلامه الغالية لفقرهم الشديد ، طوال الصيف تحمل ذلك الفتى عناء الحرارة المرتفعة ، جرّب النوم في الشمس الحارقة ، جرّب أن ينهض باكراً و هو في أشد الحاجة للنوم ، كل هذا من أجل أن يجمع مستحقات النشر ، و رغم ذلك لم يعرف أي دار نشرٍ سيلجأ إليها حينما ينتهي ، بل كان مهتما بأن كتابه لا يهم من ينشره ، بل ما يهم أن يقرأه الناس ، بعد كل ذلك الجهد استطاع ذلك الفتى جمع المبلغ مع القليل من المساعدات الخارجية ، و بينما هو يتصفح جواله ، ظهر له اعلانٌ لدار نشر أنها تخفض تكاليفها من أجل مساعدة الكتاب الناشئين ، و يا له من فخ ماكر وقع فيه ذلك الفتى ، دون تفكير أعجبته الاسعار ، فتقدم إلى الأمام و هو سعيد بذلك ، أرسل عمله إليهم و أرسل الأموال ، تحدّث مع السفاحين الذبن أظهروا له جانبهم الطيب الماكر ، تحدث ذلك الفتى مع المصمم لغلاف كتابه ، فبردت أعصابه و استرخى منتظراً يوم تأتيه رسالتهم إليه و هم يقولون له :" عزيزي الكاتب ، لقد تم نشر كتابك الأول ، تهانينا لك !" و إلى هذا اليوم ، لم يخرج كتابي الأول بعد ! فإتضح بعد مرور ستة أشهر من الانتظار أنهم عصابة يستغلون الأبرياء أمثالي ، لم اتوقع ذلك ، تواصلت مع الكثير من ضحاياهم و اجتمعنا على توكيل محامي لتولي القضية ، طالب ذلك المحامي بمبلغه السخي جداً فدفعناه ، و لم يتصل بعدها و ظهر على أنه محتال آخر ، لا يهم فهذه هي الحياة في بلادي ، الجزائر أقصد ، هل اكتفى ذلك الفتى بعد ؟ كلا لم يكتفي ، بعد أن خُدع ، ظل ثابتاً يُطالع الكتب ، فأهتم أكثر بالكتب التي تتعلق بعلم النفس ، طالعها لفترة طويلة لدرجة أنه أنهى 211 كتاباً في غضون ستة أشهر ، تباً كان بإمكانه فتح مكتب و يعالج المرضى ، لكنه ماذا فعل ؟ قال :" لما لا أراهن على كتابة كتاب آخر ، عرفت اللعبة ، عرفت دير النشر التي أستطيع الثقة فيها ، يمكنني المواصلة !" و ماذا كان موضوع الكتاب الثاني ؟ عنوانه مرض الشخصية ! لقد رأى الفتى أن الناس يتصرفون على غير سجيتهم لأسباب عميقة طرحها في كتابه ، و بالطبع لم يكن نشره بالمجان ، فعمل تحت إمرة الشخص الذي وظفه لبيع الخضروات ، و لكنه عمل في مجال بيع المثلجات ، طوال الصيف و هو قريب من آلة لا تكف عن اصدار الضجيج ، و مع زبائن أعمارهم تتراوح ما بين الخامسة إلى العشرين من عمرهم ، الكثير من الصياح و عدم الرضا بالمثلجات ، فكانت على عاتقي أن أصنع المثلجات بطريقة أفضل ليصمتوا فقط ، الآلة أشعرتني على أنني متزوج ، فهي لا تكف عن الدندنة ، و مع كل ذلك الضغط ، كنت في علاقة مع فتاة أحببتها من قلبي ، و لكنها كانت تخونني مع مضطرب عقلي ، رغم أنها كانت جميلة جداً ، و الجميلات من طبعهم اختيار الأغنى أو الأوسم ، لكنها اختارت فتى مضطرب لتخونني معه ، على كلٍ ، مع كل هذا العبء الكبير ، أستطعت الكتابة في وقت هدوء يترواح ما بين الدقيقتين و الخمس دقائق طوال ثلاثة أشهر ، حينما أنتهيت لم أتكبد عناء مراجعة ما كتبت ، قلت لابد من نشره فوراً ، و بينما أنا متوجه لمركز البريد لأحول المال لدار النشر الوحيدة التي أعطتني ما أريد ، أرى صديقتي تغادر مكاناً قريب و هي في أبهى حلتها ، إتصلت بها فأخبرتني أنها مريضة و أنها في البيت ، قمت بمراقبتها إلى أن إكتشفت أنها تعانق ذلك المضطرب و هي تتوسل إليه أن يعود إليها ، ما فعلته كان الصمت و المغادرة ، فأملك قلباً يستطيع طرد كل الهراء منه دون أن يُشعرني بقيمة ما خسرته ، ذهبت إلى مركز البريد و قمت بتدوين معلومات الدار ، فقامت تلك الخادمة في المركز بإغضابي بحركاتها البطيئة ، كان رد فعلي الذي تحكمت فيه لبرهة ، انفجر كله في وجهها ، لدرجة أنني حطمت يدي على الزجاج الذي يحمي أولئك العمال الذين حياتهم معرضة للخطر إن فكر أحدهم بالسطو عليهم ، تمالكت أعصابي و منحتها المال و غادرت ، انفصلت مع تلك الخائنة و لا زلت تتصل بي إلى هذا اليوم و أنا لا أرد ، لم تفهم القصة و لم تتمكن من معرفتها رغم كل المبعوثين لي لمعرفة ما الخطب ، أنا بارع في الهجران ، ذلك الاحتراف هو ملكي ، على كلٍ واصلت العمل ، بعد شهرين إتصلوا بي و أخبروني أن كتابي قد أُنجز ، لم أفرح كثيراً ، أرسلوا لي حصتي منه ، و لم أشرع في بيعه ، لماذا ؟ لأن مجتمعي مليء بالهراء ، و هرائي لا يصلح للقراءة ، اخذت القليل من الكتب و وضعتها في مكتبة ، و ارسلت النسخة الأولى لتلك الأستاذة التي بقيت تساندني إلى اليوم و التي تشجع الكثيرين من الطلبة على المطالعة و الكتابة ، لقد حققت تلك الأستاذة في بلدتي العفنة انجازات لا يُحققها أي أحد ، واصلت البقاء منتظرا من يشتري كتابي و ليست غايتي بيعه ، بل غايتي أن يقرأ أحدهم و يتناقش معي ، و لم يفعل أحد ، جزء مني بعد كل هذه المعاناة أخبرني أن أتوقف ، فتوقفت لعامين كاملين ، بعد أن كتبت 780 مقالا ، و 15 رواية من بينها رواية ظننت أنني سوف أكون مثل كاتب سلسلة شارلوك هولمز ، و اليوم بعد كفاح طويل و بعد فراغ كبير ، عاد جزء مني ليخبرني أنني أملك الكثير من الأفكار التي يجب أن تنشر ، ذلك الجزء تخمر كثيراً فأعطاني الآلاف من الأفكار التي لم تُعرض بعد ، أفكار تخص الجانب النفسي و إصلاحه ، و تخص موضوع كتابة الرواية بشكل فاخم و منطقي خالي من تراهات العشق و الرومانسية ، أنا أشد الكارهين لمثل هذا العبث ، فكل ما أريد نشره ، هو صفحة نظيفة من تفكير نظيف و راقٍ بأسلوب ممتع و محمس ، و ليس أن أعيش كابوساً مثل بعض الكتاب و أجعل القارئ يعيشه بمشاعره ، غايتي هو أصلاح هذه النقطة ، و كل ما أريده ، هو صفحة بيضاء لن تستغل مشاعر الناس إلى أن تصبح أسوء مشاعر ، بل أن تنهض من جديد و تكتسب الشيء الذي سوف يحميها من الانكسار ، و تبعث فيها مبادئ تحاكي الواقع و تحميه أينما كان و في أي حالة هو بها ، و هذا هو هدفي ، أدعى هارون ، أسعى لإحداث ثورة فكرية تسحب الناس من مستنقع الافكار السخيفة ، إلى الأفكار المثمرة .
التعليقات