القَهْوَة لا تُشرب على عجل، القهوةٌ أخت الوقت تُحْتَسى على مهل، القهوة صوت المذاق، صوت الرائحة، القهوة تأمّل وتغلغل في النفس وفي الذكريات

محمود درويش, ذاكرة للنسيان

كاتب وشاعر فلسطينى


إكتشاف القهوة (1)

يحكى أن راعى أغنام (*) كان يرعى أغنامه و ماعزه فى منطقة كافا جنوب اثيوبيا ، لاحظ ان الاغنام و الماعز تنتابها حالة من النشاط خلال فترة الليل عقب تناولهم الثمار الحمراء من الأشجار الموجودة بكثافة فى المرعى ،ذلك الشئ الذى دفع الراعى لقطف بعض الثمار ثم غليها بالماء ومن ثم شربها فشارك قطعانه نفس الشعور بالنشاط، وهو اول من صنع قدح قهوة لنفسه فى العالم.

ويقال أيضا أن بعض الرجال الصوفيين جلبوها إلى اليمن من اثيوبيا حتى تساعدهم على السهر للقيام بحلقات الذكر.

(*) يقال ان الراعى عربى واسمه الخالدى و روايات أخرى تقول أنه اثيوبي اسمه كالدى.

(*) القَهْوَة فى اللغة العربية : القَهْوَة من الخمر سُمِّيت بذلك لأن الإنسان يقتهي بها عن الطعام فلا يشتهيه و هى مكان التسلية وشرب الخمر وتشرب على مهل كالخمر .


أنا و القَهْوَة ☕(2).

فى أعوامى الأولى كنت أتسلل خلسة وفى غفلة من اعمامى و أخوالى إلى مجلس جدى رحمه الله والذى كان يجلسنى بجواره ،فى مجلسه كنت اشم رائحة قوية جداً مصدرها فناجين صغيرة بها شراب بني اللون يطلقون عليه أحياناً بُن أو قَهْوَة ، ذات مرة وعلى حين غرة من جدى أمسكت فنجانه وأشتممت رائحته القوية المنعشة ثم أخذت رشفة منه فأصابتنى قشعريرة ثم انتبه جدى فتبسم ضاحكاً من فعلتى قائلاً بعطف " لسه صغير ع القهوة يا فهود".

تغنت اسمهان بالقهوة يوما فقالت :

اهوى القمر يسكرني ضياه واقضي طول الليل وياه

يخلي قلبي فى نشوه والدنيا همس ونجوى

يا مين يقول لي اهوى

اسقيه بايدي قهوه

انا انا انا اهوى


الأول ☕(3)

نحن الآن فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى وقد أوشكت فترة عمل أبى بالمملكة العربية السعودية على الإنتهاء وعلى غير عادته من إحضار الشاى الفريد المذاق فقط ، أحضر معه كيساً ذهبي اللون منقوشاً عليه حبوب البن و التى تشبه فى شكلها الوجه الممتعض ، قرأت ما هو مكتوب على الكيس فعلمت انه بُن يمني محمص جيداً وبدون إضافات ، كانت أمى تعد البُن فى آنية صغيرة يطلق عليها " كنكة" ، سألتها أن تعد لى فنجانا منها و بحنان الأم قالت لى " أحلى فنجان قهوة سكر زيادة لآخر العنقود "، كان المذاق قويا و مقترن بمرارة رفم إضافة السكر و رائحتها قوية ونفاذة جداً ، مذاق لم أنساه ولن أنساه ابدا ما حييت....

قال نزار قبانى فى قصيدة بعنوان الجريدة وتغنت بها ماجدة الرومى يوما :

أخرج من معطفه الجريده..

وعلبة الثقاب

ودون أن يلاحظ اضطرابي..

ودونما اهتمام

تناول السكر من أمامي..

ذوب في الفنجان قطعتين

ذوبني.. ذوب قطعتين

وبعد لحظتين

ودون أن يراني

ويعرف الشوق الذي اعتراني..

تناول المعطف من أمامي

وغاب في الزحام

مخلفاً وراءه.. الجريده

وحيدةً

مثلي أنا.. وحيده


العشق الممنوع(4).

نحن الآن فى العام التاسع من الألفية الجديدة زاد العشق لإحتساء القهوة إلى خمس فناجين فى اليوم الواحد ثم إنتقلت بنهاية العام مباشرة إلى القهوة السادة حيث وجدت بها متعتى .

يقول المثل : السادة للسادات والحلوة للستات.

فى سنة 2013 عانيت من متاعب الجهاز الهضمي خاصة القولون ، متاعب ناتجة عن الإفراط فى القهوة ، مما إضطرنى الى الإلتزام بتعليمات الطبيب والإقلاع عن القهوة نهائيا، فإكتفيت ولأول مرة منذ زمن بشم رائحة القهوة دون إحتساء.

بعد نهاية فترة العلاج عاودت إحتساء القهوة السادة ولكن مرة واحدة بين الفينة والأخرى وليس كل يوم كسابق عهدى بالقهوة .

فى العام الخامس عشر من الألفية الجديدة توجهت لآداء العمرة مع الوالد ، وجدتهم يقدمون القهوة و إلى جانبها نوع من التمور ، كانت القَهْوَة العربية و ليست المصرية التى إعتاد عليها الشعب المصري، كانت قَهْوَة مزاجها زنجبيلا ، منعشة و رائعة ، فائقة الجمال وايضا قَهْوَة سادة.

قالت السيدة فيروز فى اغنية عن القهوة :

في قهوة عالمفرق في موقدة و في نار

نبقى أنا و حبيبي نفرشها بالأسرار .


القَهْوَة والواقع وأنا (5).

القَهْوَة ليس لها علاقة بالقراءة ولا الكتابة ولا العمل ،

القَهْوَة تشرب من أجل منحنا السعادة والمزاج الرائق عن طريق تعزيز إفراز هرمون السعادة المكون من مركبات كيميائية ينتجها المخ ، بعض من تلك المركبات تساهم

القَهْوَة فى تعزيز إفرازها ، والقَهْوَة طبيا يفضل أن تشرب منتصف اليوم اى عند الظهيرة من أجل زيادة النشاط وليس صباحا حيث تسبب التوتر ..

قَهْوَتى التى أحبها يمنية غنية ذات رائحة قوية محمصة جيداً لا فاتحة ولا غامقة بين بين وإن لم أجدها فأفضل الفاتحة اللون ، القَهْوَة يمنية لا كولومبية ذات رائحة ولا برازيلية بدون مذاق و رائحة ...

القَهْوَة أصنعها بنفسى فى بيتى او بحب الأمهات أو من الحب (عمتى الكبرى) .

منذ عدة ايام تلقيت بعض الأخبار التى جعلتنى مشوش الفكر وعازف عن الطعام ولا اجد راحة فى النوم ، توجهت إلى مجمد الطعام وأخرجت ما تبق لدى من قهوة يمنية وصنعت لنفسى فنجان شربته على مهل كما قال العرب مما ساعدنى على تصفية ذهنى و منحى نوماً هادئاً، فى الصباح نظرت إلى قَهْوَتى ثم قلت لها "أحبك الآن أكثر".