في سياق التحوّلات المتسارعة في التعليم العالمي، بدأت الكثير من الدول تعيد النظر في الفجوة القائمة بين التعليم المدرسي والتعليم الجامعي، وتبحث عن سبل لتكوين شراكات حقيقية بين المرحلتين.
ورغم أن هذا النقاش بات مطروحًا في عدد من الجامعات والمدارس في العالم العربي، إلا أن تطبيقه العملي لا يزال في بداياته، ويواجه تحديات متعددة.
فما الذي يمكن أن نتعلمه من تجارب دول أخرى في هذا المجال؟
وكيف يمكن تحويل "التعاون" من شعار إلى آلية مؤثرة في بناء مستقبل الطالب العربي؟
الفجوة: حين يُفصل الطالب عن مستقبله
في أغلب الأنظمة التعليمية العربية، يعيش الطالب الثانوي في بيئة تعليمية مغلقة على المقررات والاختبارات التقليدية، بينما تُقدّم له الجامعة لاحقًا كمؤسسة مختلفة تمامًا في منهجها وأسلوبها وتوقعاتها.
ينتج عن ذلك:
- صدمة في الانتقال من الحفظ إلى التفكير الحر.
- ضعف في فهم تخصصات الجامعة قبل اختيارها.
- غياب التوجيه المهني المبكر.
ما يحدث فعليًا هو أن الطالب يُدفع إلى مستقبل أكاديمي دون بوصلة، بينما المؤسسات الجامعية تستقبل أفواجًا من الطلبة الذين لا يعرفون طبيعة التعلّم الجامعي، ولا يمتلكون مهارات البحث أو الاستقلالية.
الدروس من التجربة اليابانية: منسّقو التواصل التعليمي
أظهرت دراسة حديثة أُجريت في اليابان أن الدور الحاسم في بناء هذا الجسر بين المدرسـة والجامعة يلعبه ما يُعرف بـمنسّقو التواصل التربوي (Education Outreach Coordinators).
هؤلاء ليسوا مجرد موظفين إداريين، بل وسطاء معرفيون ومربّون يعملون على:
- توضيح صورة الحياة الجامعية للطلاب مبكرًا.
- تيسير أنشطة بين الجامعات والمدارس، مثل ورش العمل، ومشروعات البحث المشترك.
- تعزيز مهارات التفكير، والتعلّم الذاتي، والاستعداد المهني.
وقد أثبتت التجربة أن وجود هؤلاء المنسّقين ساعد بشكل كبير في تقليل الفجوة النفسية والمعرفية بين المرحلتين، وجعل الطالب أكثر وعيًا باختياراته، وأكثر استعدادًا لمتطلبات التعليم العالي.
كيف يمكن تطبيق هذا النموذج في العالم العربي؟
رغم اختلاف السياقات الثقافية والتنظيمية، إلا أن المبادئ الأساسية قابلة للتكييف، ومن أبرزها:
1. بناء فرق تواصل تربوي داخل الجامعات
تتكوّن من أكاديميين، ومعلمين سابقين، وطلبة دراسات عليا، تكون مهمتهم تنظيم برامج مستمرة للتفاعل مع المدارس.
2. تقديم ورش تفاعلية لطلاب الثانوية
تهدف إلى تدريب الطلاب على مهارات البحث، والكتابة الأكاديمية، وحل المشكلات، في بيئة شبيهة بالجامعة.
3. إنشاء معسكرات صيفية تربط المعرفة النظرية بالتطبيق
بحيث يزور الطالب المختبرات، أو يشارك في مشاريع علمية وفنية وثقافية داخل الحرم الجامعي.
4. تدريب المعلمين على تبني أدوار إرشادية
ليكونوا هم أيضًا شركاء في هذا الجسر، لا مجرّد ناقلين للمعلومة.
هل للأسرة دور في هذا التعاون؟
نعم، فوعي الأسرة مهم جدًا في توسيع أفق الطالب ودفعه لاكتشاف اهتماماته. يمكن للأهل:
- تشجيع أبنائهم على حضور الفعاليات الجامعية العامة.
- مساعدتهم على الاطلاع على تخصصات مختلفة وتجارب طلاب جامعيين.
- تعزيز مهارات الحوار والاستقلالية في اتخاذ القرار.
التحديات المتوقعة
- ضعف التنسيق المؤسسي بين وزارتي التعليم والتعليم العالي.
- غياب الميزانيات المخصصة لمثل هذه المبادرات.
- الضغط الأكاديمي داخل المدارس الذي لا يترك مساحة للأنشطة غير الصفّية.
لكن التغلب على هذه التحديات ممكن، من خلال شراكات استراتيجية، وإرادة سياسية واضحة، وتجريب مشاريع صغيرة قابلة للتوسع.
خاتمة: من الفصل إلى الجسر
التعليم ليس مجرد تسلسل زمني من مراحل منفصلة، بل رحلة متصلة من الطفولة إلى النضج.
وحين نربط المدرسة بالجامعة عبر جسر معرفي حقيقي، نمنح الطالب العربي فرصة لفهم ذاته واختياراته وتوجهاته المهنية بشكل أفضل.
إننا لا نحتاج فقط إلى تطوير المناهج، بل إلى تطوير العلاقة بين المؤسسات التعليمية، حتى يصبح الطالب العربي ليس مجرد "منتقل" بين المراحل، بل "متكامل" في تجربته التعليمية من البداية إلى المستقبل.
التعليقات