منذ نعومة أظفارنا ونحن نعتاد على صورة الفصول الدراسية المنظمة بدقة: صفٌّ دراسي يضم طلابًا من نفس العمر تقريبًا، يدرسون نفس المناهج، وفي نفس الإطار الزمني.
لكن قلّما نتوقف لنسأل: لماذا؟ ومن قرر أصلًا أن التعليم ينبغي أن يُنظم هكذا؟
السؤال يبدو بسيطًا، لكنه يحمل في أعماقه نقدًا جوهريًا لأحد أقدم الأعمدة التنظيمية في النظام التعليمي التقليدي.
فهل حقًا العمر وحده هو أفضل معيار لتنظيم التعلم؟
وهل هذه القاعدة نتيجة تفكير تربوي عميق أم مجرد "صدفة تاريخية" أصبحت مع مرور الزمن من المسلّمات التي لا يجرؤ كثيرون على مراجعتها؟
الجذور التاريخية لفكرة "التصنيف العمري"
تعود فكرة تجميع الطلاب حسب أعمارهم إلى بدايات التعليم النظامي الجماهيري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تحديدًا مع ظهور النظم التعليمية في أوروبا وأمريكا خلال الثورة الصناعية.
كان الهدف حينها عمليًا وبسيطًا:
تسهيل التنظيم والإدارة: تقسيم الطلاب إلى مجموعات عمرية يسهل من خلاله تنظيم الجداول الدراسية، توزيع المعلمين، وقياس التقدم التعليمي.
التكيف مع أنظمة الإنتاج الصناعية: إذ كانت المصانع تعتمد على نماذج الإنتاج المتسلسل، فنُقل هذا النمط إلى التعليم: الجميع يتعلمون نفس الشيء في نفس الوقت ليخرجوا "منتجًا موحدًا" للسوق.
بمعنى آخر: لم يُبْنَ هذا النموذج على أسس تربوية بقدر ما تأسس على اعتبارات إدارية واجتماعية مرتبطة بالعصر الصناعي.
لكن مع مرور الوقت، تحول هذا النموذج من أداة تنظيمية إلى "بقرة مقدسة" لا تُمس في معظم نظم التعليم حول العالم.
الإشكاليات الخفية في التصنيف العمري
رغم بساطته الظاهرة، يطرح هذا التصنيف عدة مشكلات تربوية:
1. اختلاف معدلات النمو العقلي والنفسي:
الأطفال لا ينضجون بنفس الوتيرة، فطالب في العاشرة قد يكون أكثر نضجًا فكريًا من زميله في نفس العمر بعامين من حيث الفهم أو المهارات الاجتماعية.
2. إهمال الفروق الفردية في الاهتمامات:
التصنيف العمري يفترض أن جميع الأطفال في عمر معين مهتمون ومستعدون لنفس المحتوى المعرفي، وهو افتراض بعيد عن الواقع.
3. إضعاف مهارات التعاون بين الفئات العمرية:
حين يتعامل الطلاب فقط مع أقرانهم في العمر، يفقدون فرصة التعلم من الأكبر سنًا وتوجيه الأصغر منهم.
4. زيادة القلق والضغط النفسي:
الطالب الذي يتأخر قليلًا مقارنة بزملائه يشعر بأنه "متخلف"، في حين أنه قد يكون ببساطة مختلفًا في طريقة التعلم أو زمن النضج.
ماذا لو تعلم الطلاب من مختلف الأعمار معًا؟
طرح بعض المربين والمفكرين فكرة التعلم المتعدد الأعمار بوصفه بديلًا أكثر إنسانية وواقعية.
وتقوم هذه الفكرة على السماح للأطفال من أعمار مختلفة بالتعلّم في بيئات مرنة، بحيث:
* يتعلّم الأصغر من خبرات الأكبر.
* يكتسب الأكبر مهارات القيادة والتوجيه.
* تتعزز مهارات التواصل الاجتماعي والتسامح مع الاختلافات الطبيعية في الفهم والنضج.
وقد أثبتت العديد من المدارس البديلة والأنظمة المرنة أن بيئة التعلم المختلطة عمريًا:
* تحفز الفضول بشكل أعمق.
* تقلل من التنافس المرضي.
* تعزز روح المجتمع داخل الفصل.
* تساعد في بناء مهارات الحياة الحقيقية التي نحتاجها في العمل والمجتمع، حيث لا نتعامل مع من هم في عمرنا فقط.
لماذا نخشى كسر هذه "البقرة المقدسة"؟
رغم وضوح كثير من فوائد التعلم المختلط، إلا أن مقاومة النظام التقليدي للتغيير تعود إلى:
سهولة الإدارة في التصنيف العمري.
عادات اجتماعية مترسخة ترى العمر مقياسًا دقيقًا للنضج.
خوف المعلمين من التعامل مع مستويات مختلفة في صف واحد.
لكن الحقيقة أن هذه التحديات يمكن تجاوزها إذا تحوّل دور المعلم من ملقّن إلى ميسر، وإذا أُعيد تصميم المناهج لتراعي التنوع الطبيعي بين المتعلمين.
الخلاصة: حان وقت إعادة التفكير
ربما حان الوقت أن نسأل بجرأة:
لماذا نظل أسرى تصنيف عمراني وُضع لخدمة عصر صناعي مضى؟
في عالم اليوم، حيث تتداخل الأجيال في ميادين العمل والحياة بشكل مستمر، يصبح من العبث أن يظل تعليمنا يعتمد على نموذج جامد يفترض أن الجميع يتعلّمون بنفس السرعة وفي نفس اللحظة.
التعليم الحقيقي لا يُقاس بالتاريخ الميلادي للطالب، بل بقدرته على الفهم، الفضول، التفاعل، والنمو في بيئة مرنة تحتضن تنوعه البشري الطبيعي.
التعليقات