بعيدًا عن الجائحة وقريبًا من الأفكار وتأملات، فقد أهدتنا هذه النازلة شيئًا ثمينًا وعزيزًا علينا، كنا نبحث عنه، ولو بقينا الدهر كله ما وجدناه، إنه الوقت، إنه الزمن، بما تحمله وحداته، من ساعات، ودقائق، وثوان، وأجزاء الثانية، النازلة بالرغم مما تحمله من ضَرر لهذا العالم، إلا أن في جوهرها منافع تقلل من ضَررها.
كيف وهي تقول للزمن توقف ولو لبرهة خاطفة، لتعطى فيها للعباد وقتًا ولحظة بل لحظات لتفكير والمراجعة والمحاسبة والتأمل في الأعمال والنفس والخلق ومخلوقات وترتيب بيت كل واحد منا، تمنياتي من كل عاقل أنه أحسن استغلال هذا الحجر لما فيه صلاحه وخيره، «فالعاقل من وعظته التجارب».
تصادف تصفحي للمواقع الإخبارية نبأ إعلان بعض الدول فتح مدارسها بعد توقفها عن أزيد من شهرين، فلماذا كل هذا الإصرار على العودة؟ بالرغم من وجود بدائل لا بأس بها، وفي المتناول للقيام بالفصل الدراسي. ثالثًا مختلف ومغاير عما هو مألوف عند الناس، وتُرى ماذا قدمت لنا المدارس منذ ولدتها حتى تستحق منا كل هذا الانتظار؟ وهل نستطيع أن نستغني عنها؟ وهل يصح لنا أن نُوقف الزمن، ولو لبرهة، ونأخذ لحظة لإعادة التفكير في أحد أهم اختراعات البشرية الحديثة؟ أم أن ما تُقدمه لنا كَفيل لها أن «تَنسَرى» وتكون بديلًا لنفسهَا، «كما تَنسَرى ثعَبان عن سَلختها لتغيرها؟».
بما أننا لسنا بعيدين عن الأفكار حول مفهوم المدرسة أو المدارس بصفة الجمع، جميل أن نذكر عن جموع بعض المفكرين ممن كانت لهم أراء ومواقف قوية تركت صداها في أفكاري حول ما تقدمه المدارس الآن من منهاج تعليمية وتربوية، حيث سعوا إلى الإصلاح وإعادة التفكير في نهضة التعليم وتقويمه، ولم يسأموا من التحدث بصوت مرتفع علّهم يجدون آذانًا مصغية لما يقولونه.
توقفت المدارس فتركت فراغًا رهيبًا في حياة طلابها وأولياء أمورهم فكانت في الوقت نفسه نقمة للبعض ونعمة للبعض الآخر، ومع طول مدتها في إغلاق أبوابها ودخول عطلة الصيف طويلة، حق علينا إيجاد حلول للمعرفة لتقديمها لأولادنا، فهناك من بدأ بأَوعيَته وبحث في الكتب والمنصة التعلم عن بعد، ليس إلا ليتَبع نفس المناهج المدرسية، في محاولة له لإيصال المعرفة لجزمه أن التعليم يكمن في تلك المقررات.
ومن كان تفكيره غير ذلك يكون قد فكر في الجذور، بدلًا عن الأغصان، ويكون بذلك حتمًا قد صح فيهم قول جلال الدين الرومي الذي قال: «إن المزارع الذي يهتم بأغصان أشجاره ويهمل جذورها لا يلبث أن يجدها تذبل وتموت»، فاستمرارنا في السعي وراء الكتب المقررة والبحث عن أحدث الأساليب التدريس والتركيز على حشر المعرفة وتحويل أبنائنا إلى خط عمودي وقيمة من الأرقام، أي إهمالنا للجذور، بطبيعة الحال سيكون حالنا ليس ببعيد عن حال المزارع الذي يهمل جذور أشجاره، حيث إن أبنائنا سيذبلون ويصبح من الصعب استعادة حيويتهم وقدرتهم على توليد ذاتهم.
معظم المدارس في أنحاء المعمورة تركز على الأغصان، لكن الحل يكمن في الجذور والذي يبدأ مما هو حولنا في البيوت، والساحة، والحدائق، والغابة، والجبال، والسهول و… وما يمنع الآباء من الاقتداء بالمدرس والأديب خليل أبو ريا الذي وصفه تلاميذه في كتابه أنه كان يغلق المدرسة كل يوم سبت، ويأخذنا مشيًا على الأقدام، في تلال ووديان وقرى حول رام الله والتي تعرفنا خلالها على الأهالي، وعلى أنواع كثيرة من النباتات والينابيع.
وكما ذكر أيضًا فاشه في مذاكرته عن البذرة التي انطلاق منها في كتابته لرسالة الدكتوراه، والتي كانت اكتشافه لرياضيات أمه الأمية التي كانت تمارس مهنة الخياطة حيث قال إن رياضيات أمي كانت دقيقة، لكنها مرنة عكس رياضيات التي هي في مدارسنا دقيقة، ولكنها صلبة تفتقر إلى دلالات كثير، بحيث إنها كل ما احتاجته لإنجاز عملها هو (متر) من جلد وجسم حقيقيّ، بل ذهب فاشه إلى أبعد من ذلك عندما وضع أمه على أنها إحدى المراجع الرئيسة في رسالته للدكتوراه التي قدمها في جامعة هارفارد.
وعن تجربة أخرى والتي تراهن على أن التعليم لا ينحصر في أسوار المدارس، يحكي لنا إليتش عن ما قام به المفكر والمعلم البرازيلي باولو فريري الذي يرى أن المرء يمكنه خلال شهر فقط أن يتعلم القراءة، حيث كان فريري يختار إحدى القرى المجاور له بهدف تعليمهم، وكان كل يوم يذهب فيه إليهم يدون الكلمات والموضوعات التي تشغل أهالي القرية وتدور نقاشاتهم حولها، وأثناء جلسات المناقشة مع الأهالي تلك القرية يقوم فريري بتعليم الناس القراءة من خلال الكلمات والموضوعات التي تشغلهم، وليس من خلال موضوعات معدة مسبقًا بعيدة عن واقعهم واهتماماتهم.
من خلال هذه التجارب نقول إن هذا الإصرار على الانتظار المدارس ما هو إلا مضيعة للوقت، لو تم استغلاله في تجارب ميدانية ومن واقعنا وحياتنا المعاشة كان أحسن بكثير، فتجربة المهن المنزلية من الطباخ إلى الخياطة أو المهن الزراعية من الغرس إلى السقي أو المهن البحثية من طبيعة عمل الأب إلى الأم أو المهن الميكانيكية من سيارة الجار إلى سيارة العائلة.
كل هذه المهن أو أكثر لو وضعت كمشروع عند إغلاق المدارس من طرف المدرسة نفسها أو الآباء والأمهات، لاكتشفنا أن ما تقديمه المناهج التعليمية التقليدية لأبنائنا باعتبارها المصدر الوحيد للمعرفة عند بعض المدارس ما هو، إلا تعطيل للحواس، وقتل للفكر الحي فالمعرفة والتعليم الذي يقدم للطلاب ما هو إلا إخفاء للواقع بدل من كشفه.
وعما قدمته المدارس لنا والعربية منها خاصة أنه لو أتينا بالطَالب أتم دراسته ثانوية أو معلم من قبره عاش في القرنيين الثامنة أو التاسعة عشر وأدخلناه أحد الصفوف الدراسيّة، فإنّ باستطاعته أنْ يُعلّم المواضيع المطروحة دون أدنى صعوبة، ما أريد قوله هو ما وصولًا إليه منير فاشه بما يسمى «بنظرية الإسفنجة وصنبور الماء»، التي انتشر كثيرًا في المدارس، والتي تعتبر الطالب إسفنجة والمعلم صنبور الماء، الذي يصب الماء على من حوله من الإسفنجات التي لا تقوم بأكثر من امتصاص الماء.
بالإضافة ما قدمته لنا أيضًا من أنظمة هَارمَة «أكل عليها الدهر وشرب» وأنظمة صارمّةٍ تربي على الخنوع والخضوع، كعملية القيام والجلوس المتكرر وترتيب الصفوف التي تشبه السجون، واستعملها إلى استعارات القاتلة واسعة الانتشار، التي هي على صيغة: «عندما تَكبُر تَفهم، والطالب عنّدنا لا يفهم ولا يمشي إلا بالضرب… إلخ».
حق للمدارس أن تَنسَرى عن سَلختهَا، لكن قبل ذلك حق عليها رفع شعار الإمام عليّ بن أبي طالب حين قال: «إن قيمة كل امرئ ما يحسنه»، عبارة لو أدركنا معانيها ستكون الحل، لما تحويه من معان الإتقان والجمال والعطاء والكرامة والاحترام فهي المقاييس الحقيقة التي نبحث عنها لأنها تعطينا تقييمًا حقيقيًا للمَرء في هذه الحياة، بحيث تكون قيمة المرء لا يمكن مقارنتها بقيمة أي شخص آخر، عكس المقاييس التي تدعى العالمية حيث تحول المرء إلى أرقام، وترقمه على طول خط عموديًا، مدرج إلى أعداد، ما هكذا تقاس قيمة المرء «ولا هكذا يا سعد تُورد الإبل».
في ظل غياب المدارس الرسمية لمَ لا نحاول إنشاء مدارسنا الحقيقة بأنفسنا ونرفع التحدي مع أولادنا أطفال كانوا أو مراهقين لتكن لهم ذكرى خالدة في أذهانهم، ما يمنعنا أن تكون مدارسنا بها مواد لتقييم أولادنا فيما يحسنونه في حياتهم.
كالمادة الزراعة التي تشمل فيها علوم، ومادة الطقس أو الطعام التي تشمل على الفيزياء والرياضيات، أو مادة الثقافة والتاريخ التي تشمل فيها تعلم اللغات والآداب والحضارات، ومادة الجغرافيا التي يمكن أن نبدأ فيها بالتجوال مشيًا على الأقدام، والتعرف على المكان والمعالم والطبيعة، والناس من حولنا، ومادة المهن التي تكون تحديًا في تعلم وتثقيف في عدة حرف ومهن في أقل وقت ممكن، ما هو جميل في هذه المواد أنها تتطلب استعمال الحواس والأيدي والأرجل والأصابع المهملة والمعطل في مدارسنا، والضرورية لربط الفكر بالحياة والطبيعة.
وختامًا من المُهِم أن نُدرِك على حد تعبير هيرقليطس أنّ كثرة المعلومات لا تُؤدّي بالضرورة إلى الفهم. وأنّ الفكر ليس الأفكار، والبُنية غير البيانات، والمعنى غير المعاني، كما يقول المسيري، وكما قال حسين البرغوثي: «الذهن هو مُمكّناته وليس ما فيه»!
التعليقات