أحببت دائمًا الفنان الراحل نور الشريف، وخاصة عندما يظهر كضيف في البرامج التلفزيونية، أكثر حتى من ظهوره كممثل في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية.

فدائمًا ما رأيت فيه هذا الفنان المثقف المطلع، الذي يتحدث وهو يعي ما يقوله، ليس فقط يعيه ولكن أيضًا يوزنه.

شاهدته حينها وأنا أقلب التلفاز بحثًا عن شيء اشاهده وأنا أستمتع بالطعام، لم ابحث عن شيء محدد بذاته، بل اى عمل تلفزيوني يهدف لمجرد التسلية والمتعة لا أكثر.

كان يتحدث في فيلم وثائقي أنتجته قناة الجزيرة الفضائية قديمًا كضيف هام، ويظهر في خلفيته مجموعة من الرسومات التي تذكرني دائمًا بالرسومات المطبوعة على سلسلة ما وراء الطبيعة للراحل الدكتور أحمد خالد توفيق، وكان أكثر ما يتكرر على لسان نور الشريف هو كلمة الأفيش.

دنيا الأفيش

دنيا الأفيش، هو عمل وثائقي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، يعمل على مناقشة تاريخ صناعة الأفيش السينمائي وتطوره مع الزمن وصولًا إلى عصر الفوتوشوب وظهور الأغلفة الدعائية الملقبة بال " بوستر ".

لا أنكر في البداية أن ما جذبني للعمل هو ظهور الفنان نور الشريف، لكن لم يمضى دقيقتين حتى لم أعد أرى نور الشريف، بل كل ما أهتم به هو هذا الملقب بالأفيش، ألوانه المختلفة، رسوماته النابضة بالحياة، تاريخه، والأهم من ذلك، كنت أبحث عن إجابة سؤال واحد

لماذا فن بهذه الروعة، ينتهى بكل سهولة؟

الأفيش أولى أساليب الدعاية في عالم السينما.

السينما كغيرها من الصناعات تحتاج إلى تمويل، هذا التمويل يعتمد بشكل أساسي على الجمهور، لذلك ظهرت الحاجة لخلق سُبل دعائية مبتكرة تجتاح جميع الطبقات و تجذب الجمهور لرؤية الفيلم.

وهنا تحديدًا ظهرت فكرة الأفيش، فغلاف دعائي قصير أو كبير، يحمل رسومات يدوية يرسمها فنان مخضرم، تحمل فكرة الفيلم، وتعطى دلالات لما يتناوله، وتجذب الجمهور لمعرفة ما وراء هذا العمل الفنى. هذه هى أليه عمل تصميم الأفيش بكل بساطة، فلا يقتصر كونه بعض الرسومات البسيطة الجذابة فقط، لا، بل كل لون يستخدمه الرسام يجب أن يوحى بشيء ما، زاوية نظرة عين البطل، موقعه من الأفيش، حجم الممثلين الأخرين، الألوان التي تحيط بالرسمة، كل هذا يتكاتف سويًا ليعطي لك الانطباع الذي يسعى إليه القائمين بالعمل.

أليس هذا جميلًا؟...

بل مبدعًا في الحقيقة تخيل معي احد رسامين الأفيش، يمسك فرشة صغيرة وينظر إلى الحائط بعمق، فيأخذ وقتًا طويلًا وكأنها مسألة حياة أو موت، ثم يرفع لوحة الألوان ويقرر إنه سيستخدم اللون الأحمر في هذا الجزء، ربما لن يتعدى اللون الأحمر 5سم من مساحة الأفيش، ولكن أستحق كل هذا الوقت في التفكير، فاللوحة الآن تبدو رائعة.

هذه هى التركيبة السحرية لروعة فن الأفيش ،فما تميزت به صناعة الأفيش و ما جعلها مميزة حقًا هو اهتمامها بالتفاصيل، وجميع التفاصيل مهما صغر حجمها أو كبر. لذلك انا اتفق مع المخرج السينمائي على بدرخان عندما وصف الأفيش في العمل الوثائقي بقوله :

" الأفيش، اشبه باللوحة، بل هو عمل فنى في حد ذاته"

الأفيش الآن

يتابع الفيلم سرد تاريخ تطور الأفيش في العالم وتحديدًا في السينما المصرية، وكيف طور فيه الرسامين المصريون وأضافوا عليه، من خلال لسان بعضهم، ومن خلال لسان بعض المعاصرين لتلك الفترة، أو من خلال محبين عالم الأفيش أنفسهم. وبالرغم من اندثار صناعة الأفيش في العالم وخاصة بعد ظهور برامج متطورة مثل الفوتوشوب وغيره من برامج التصاميم، إلا أن هناك الكثير من الأشخاص المهوسين بهذا النوع من الفن، ويعمدون إلى اقتناء كل الأفيشات النادرة مهما كان ثمنها، ويحتفظون بها في مخازنهم الخاصة كنوع من الأشياء القيمة والتاريخية التي يجب أن يصونها أحدهم ويعمد إلى توثيقها.

ولكن ما أثار دهشتي حقًا، وأريد أن أشارككم فيه هو :

أليس أولى أن يكون هناك متحف أو معرض خاصة للأفيش تؤسسه الدولة من أرشيفها الخاص من الأفيشات النادرة؟

الا يجب أن تتعاون الجهات الثقافية مع محبين الأفيشات النادرة لإضافة مجموعتهم الخاصة إلى متحف يحميهم من التلف أو التعرض للكوارث الطبيعية أو البشرية ؟

فالأفيش في وجهة نظرى الخاصة ليس عمل فن مميز فقط، ولكنه أيضًا وثيقة هامة تشرح تاريخ تطور السينما المصرية عبر السنين، بل هو أكثر من ذلك ، فهو ملخص ممتع للسينما المصرية في شكل لوحات بشرية نابضة بالحياة.

رابط الفيلم لمن يرغب في مشاهدته وإثراء النقاش: