كما ذكرت في الموضوع الأمس (
https://arabia.io/go/8557) أنني سأتحدث عن التنمية البشريّة.. ولأكون صريحـا أشعر بالإرتباك والقلق عند الحديث في هذا الموضوع، خاصة عند الحديث عن أشخاص أصبح الكثير يقدسونهم بينما أغلب الكلام الذي يقدمونه (سواء كان في الكتب أو في المحاضرات) هو هراء فاخر أو كما يمكن تسميته في تونس طَحِينٌ فاخـر .
ولكي أكون صريحا أكثر، فنحن في تونس لا نملك هؤولاء الناس، إلا شابا أو اثنين حصلوا على شهادة من جامعة غنتولبريج بعد حضورهم لمحاضرة في مصر وأتوا لتكرير الهراء الذي سمعوه في تونس.. سمعتُ شابا عرضوه في التلفاز قبل أشهر يقتبس مقولة كانت نتشرة عندها في الفيسبوك وهي «لا تنظر للجزء الفارغ من الكأس، بل أُنظر إلى الجزء المليء» وهي مثلها مثل باقي الأمثلة أخرى، كلام فارغ وبلا معنى.. لكن الجمهور، يصفق وبفرح لما سمعه ويحسّ أنه سوپرمان السعادة والأمل.
فأغلب ما علمته عن التنمية البشرية هو من الكتب التي مرّت أمامي في معارض الكتب هنا، أو من خلال الأنترنت (وهذا ليس عيبا، فلماذا أصرف وقتي الثمين في الإستماع إلى هراء فاخر بينما يمكنني تأليف نفس الهراء والاستماع إليه؟!). ولنتفق من البداية أنني سأنتقد الأشخاص، ليس لذاتهم، بل لكلامهم ومن دون تحفّظ
التنمية البشرية
وهي حسب ويكيپيديا:
التنمية البشرية هي عملية توسيع القدرات التعليمية والخبرات للشعوب والمستهدف بهذا هو أن يصل الإنسان بمجهوده ومجهود ذويه إلى مستوى مرتفع من الإنتاج والدخل، وبحياة طويلة وصحية بجانب تنمية القدرات الإنسانية من خلال توفير فرص ملائمة للتعليم وزيادة الخبرات.
أمّا..
البرمجة اللغوية العصبيّة
فهي حسب ويكيپيديا أيضا:
البرمجة اللغوية العصبية (بالإنڨليزية: NLP) مجموعة طرق وأساليب غير مثبتة علميًا تعتمد على مبادئ نفسية...
أظن أن استشهادات ويكيپيديا كافية للتعريف بـ بلع و التنمية البشريّة وسوف أتعرض لها في الموضوع.
دورات التنمية البشرية
كنت أفكر في البدأ بمدربي التنمية البشرية، لكنني فضلت تركهم كآخر عنصر في الموضوع (Dessert).. أكثر ما يحيّر في دورات التنمية البشرية، هي عددها! فكل يوم تجد عشرات الدورات، وصدقني، أي شخص بسيط يسمع أنه تحدث عشرات دورات التنمية البشرية كل يوم، وتفسر له معنى التنمية البشرية (أمل تفاءل..) سيصدق أن العالم العربي من شرقه إلى غربه يعيش في سعادة غامرة و«نشوة» لا حدود لها.. بينمـا الواقـع..
العدد ليس في الكمية فقط.. بل في ما ستدفعه.. والأمر ليس متعلقا بالتنمية البشرية فقط بل بالبرمجة العصبية أيضا.. ودعني أروي لكم قصة قصيرة...
سمعتُ بشيخ ( نسيـت اسمـه ) يقول أنه اكتشف طريقة جديدة للحفظ وأنه حاصل على براءة اختراع وحاصل على شهادة من جامعة اوكسفورد (أو أي اسم يبدو على أنه اسمه جامعة) وشهادة من جامعة تشانوون في اليابان وشهادة من جامعة نيويورك وشهادة من جامعة تورنتو ومونريال (تنطق أيضا مونتريال) وجامعة الصوربون بفرنسا وووو... ويخبرك أنه حصل على جائزة عالمية في مجاله..
ثم يكمل هراءه قائلا أنه حافظ لكت أمهات الحديث الستة والقرآن ...
وبعد كل هذا الطحين الفاخـر يضع لك البريد الإلكتروني أو الموقع للإشتراك في الدورة وينسى أو يتناسى وضع سعر الدورة.. تواصلت معهم عبر الايميل لأسأل عن السعر فقالوا لي أنه.. 1200 دولار!
1200 دولار أيها الكـاذب! .. تصوّر معي عزيزي القارئ أنك تكذب كذبة ما، وتقوم بتزكيتها بقليل من الكلام الديني، ومن ثم تحصل على 1200 دولار في 3 أيّام.. بحق السماء من أجل ماذا الألف و200 دولار؟
ثم واصلوا إرسال إعلانات لدورات أخرى (وبضعف السعر هاته المرة)..
هذا مثال بسيط لآلاف الأمثلة الأخرى لأشخاص دجاجلة يبيعونك الهواء أو الهراء أو الطحين في كتب او في دورات باسم التنمية البشرية.. وتخسر أنت نقودك وتظن أنك أسعاد إنسان (اليوم الأول) بينما يعيش ذاك المدرب في رفهية لا متناهية...
أردت القيام بعملية حسابية بسيطة، شخص يقوم بدورة يحضر فيها.. لنقل 70 شخصـا وسعرها 600 دولار .. كم يربح المدرب ؟ 70×600= 42 ألف دولار! أكثر مما يربحه أي موظف في سنة! هو ربحه في يوم واحد أو يومين.. اضربها في ال5 = 210 ألف دولار.. في شهر ربّما أو شهرين.. ! من قال أن الكذب سيء؟!
كُتب التنمية البشرية
وقد مررت على العديد.. العديد.. العديد والعديد العديد منها في المعرض، معرض الكتاب 80% كتب تنمية بشرية (هراء) لأشخاص أول مرة أسمع بهم! ... كتبهم عبارة عن تفاهات وأظف إليها سرقات أدبية.. ومبروك! أنت الآن كاتب مشهور..
أول شيء يميز الكتاب هو غلافه الجميل الجذاب الذي تجد فيه صورة شخص فاتح يديه أو «مكتفها» وشعاع سماوي يشع وراءه وكأنه ملائكة.. أمّـا المحتوى... أؤكد لك أن المحتوى هو نفسه في كل كتب التنمية البشرية، ربما تختلف طريقة التعبير، لكنه نفس الشيء!
طبعا لا تنسى أن ذكر في الكتاب (يفضل في المقدمة) الشهائد الحاصل عليها من الجامعات الأمريكية والبريطانية والفرنسية وغيرها.. حتى لو كانت جامعات وهمية مثل جامعة ميتافيزيقيا بلوس بلوس أنجلوس .. أو جامعة لوڨنتبورڨ (لوغنتبورغ) وإذا كنـت لا تعرفها فهذا لأنك فاشل ولا تعرف التنمية البشرية ولن تنجح أبدا في حياتك ولم تدفع 600 دولار! إنهـا مشكلتك..
ويفضل في كل الكتاب أن تذكر مقولات مشهورة لكتاب أجانب مشهورين وتنسبها لنفسك .. أيضا، لا بأس بذكر بعض الأحاديث (الضعيفة) والآيات (في غير سياقها) وإلا فكيف تريد إقناعي بشراء كتابك؟!
أكثر ما يحيرني في كتب التنمية البشرية هو الحجم الكبير! .. أتساءل دائما كم أمضى من سنة يقوم بكتابة هذا الكتاب؟ ثم أتفاجئ أنه كتبه في أسبوع، بعدما ضاقت به الدنيا ولم يجد عملا يسليه..
ولا تستغرب أن نفس محتوى الكتاب هو نفسه في كل كتبه.. فقط العنوان والألوان ( حتى الألوان لا تتغير ) يتغيران.. تظن أن المحتوى هو نفسه؟ إنها مشكلتك .. هذا بسبب قُصر نظرك ولانك لم تدفع 600 دولار للدورة!
مدربوا التنمية البشرية
أعرف أن كل ما ذكرته سابقا ليس سوى كلام يعرفه الجميع.. دعونا نأتي للأمر المثير أما كما نقول بالتونسي «خلّينا نجيو للصحيح توّا» ..
أشهر مدرب تنمية بشرية عرفه التاريخ العربي والمصري.. الحاصل على شهادات من جامعة الميتافيزيقيا (معترف بأنها خرافات) الأمريكية ومن جامعة كندا وبريطانيا والحائز على براءات إختراع وإكتشف علمين جديدين ... لا يملك صفحة ويكيپيديا بالإنڨليزية !!!!!! لا لستُ أمزح.. نعم ذاك الشخص الذي في بالك ومع إحترامي لشخصه (كما قلت في البداية) إلا أن أبرز دليل على أن ما ينشره هو مجرد هراء.. كونه لا يملك إلا صفحة باللغة العربية في ويكيپيديا! لماذا؟ لأن ويكيپيديا الإنڨليزية لا ترحب بالهراء.. بالطحين حتى لو كان فاخرا وصُنع في كندا!
الطامة الكبرى كانت حين وجدت أنّ إدارة موقع ويكبيديا الإنكليزية حذفت المقال الذي يتحدث عن السيد إبراهيم الفقي “لنقصٍ شديدٍ في مصادره الموثوقة”. (2)
أعلم أنه ليس من الجيّد ذكر الموتى.. فأمرهم الآن بيد مولاهم (الترجمة الحرفية لعبارة تقولها أمي كلما انتقد أبي شخصا ميتا) لكن.. الحقيقة يجب أن تكشف، فلن نقول أن هتلر كان ملائكة لأنه ميت؟!
هذا الشخص (فقط على سبيل المثال) ومع إحترامي لشخصه، بنى إمبراطورية من الكذب في العالم العربي.. وصار الجميع «يهتري» به وبكتبه ودوراته... لو لم يكن كلامه كذبا، لماذا لا ينتشر إلا في الدول العربية والمشرقية أساسا؟! لماذا لا نسمع له أي أثر في العالم الآخر؟ (الغربي). (ملاحظة: مشهود له بسرقات أدبية كثيرة)
الأمر لا ينطبق على هذا الشخص فقط، بل ينطبق على أي مدرب تنمية بشرية هو صانع هراء ببذلة (صانع طحين ببذلة.. لن يفهمها إلا التونسيون/الجزائريون) .. هؤولاء الناس، يحضرون لدورة فلان الفُلاني مقابل 700 دولار ليحصلوا على شهادات من جامعة اكسفورد (يبدو أن هذه الجامعة تعاني نقصا في الشهرة وفي الطلاب لكي توزع الشهادات بهذا الكرم.. الله يكون في عونها) أو من أي جامعة أمريكية. ثم يصير صديقنا مدرب تنمية بشرية، فيرتدي أفضل بذلة يملكها.. وان لم يكن يملك واحدة؟ سيستعريها من صديقه ليلتقط صورة الكتاب ثم يصبح له المال لشراء ألف بذلة من نفس النوع.. ثم يدور العالم العربي يلقي محاضرات وينظم دورات وكل القنوات التلفزية مهتمة بما يقدمه (بما أن لها نصيبا) ويعيش حياته في رفاهية ويفتح شركات ليعزز ربحه المادي.. ثم.. الله أعلم بحسابه على كمية الأموال التي سرقها من خلال تظليل الناس..
كما قُلت لكم من الأول فأنا خائف من عدد المعارضين لما قُلته الجزء الأخير.. لكن الحقيقة يجب قولها، اليوم أو غـدًا.. الموضوع طويل جدا.. يبدو أنني تأثرت أيضا بالحشو على طريقة التنمية البشرية..
أخيرا، كما هو واضح فالتنمية البشرية مهما كان من يقدمها وأين يقدمها هي مجرّد هراء بلا معنى.. الهدف منه استغفال الناس لسرقة نقودهم لا أكثر ولا أقـل وباسم السعادة والأمل.. والمصيبة أكبـر عندما يُحشر الدين في مثل هذه التفاهات للحصول على أموال أكثر..
ومع إعتذاري للتونسيين والجزائريين الذي يقرؤون المقال عن كلمة "طحين فاخـر" .. هذا أمر لا بد منه لايصال الفكرة.. :)
ومن يشكك في ويكيپيديا فيمكنك التأكد بنفسك:
http://ar.wikipedia.org/wik...(2) كما يوجد هذا المقال (المترجم أساس من مقال إنڨليزي) :
مقال ينتقد البرمجة العصبية:
ملاحظة: لا تحتاج إلى ان تكون عالما حتى تكتشف أن البرمجة العصبية والتنمية البشرية وكل دوراته مجرّد خرافات وتفاهات لا معنى لها.
أشك في أنه لا يمكننا التعميم في هذا الموضوع بالذات..
التعليقات