يقولون إن المال مجرد وسيلة، ورق ملون أو أرقام على شاشة، لا يساوي شيئًا في ذاته.

لكن حين يتكاثر ويتضخم، يصبح أكثر من مجرد وسيلة: يتحول إلى معيار، إلى سلطة، إلى لغة جديدة تفرض نفسها على البشر.

المال القليل يشبه الملح في الطعام، ضروري لكنه لا يغيّر طبيعة المائدة. أما المال الكثير فهو كالغرق في بحر بلا شاطئ، يغيّر الطعم واللون والرائحة، ويحوّل الإنسان من كائن يبحث عن معنى إلى كائن يبحث عن المزيد.

المال في حياة الفرد

الفقير يردد الحكمة القديمة: "المال لا يصنع السعادة"، لأنه لم يجرّب حسابا مصرفيا يفيض بالأصفار. أما الغني فيبتسم ساخرا من هذه الحكمة، ثم يضيف: "صحيح، لكنه يشتري كل ما يشبه السعادة، من السيارات إلى الرحلات إلى الأصدقاء المزيفين." المال القليل يعلمك الصبر، أما المال الكثير فيعلمك الغرور، ويمنحك القدرة على إعادة تعريف الفضيلة بما يناسب مصالحك.

خذ مثالًا واقعيًا: موظف بسيط يعيش على راتب محدود، يفرح بزيادة صغيرة لأنها تمنحه القدرة على شراء كتاب أو قهوة إضافية. بينما رجل أعمال يملك الملايين، يعتبر أن هذه الزيادة لا تساوي حتى ثمن ربطة عنق. هنا يظهر الفرق بين المال كوسيلة للعيش، والمال كأداة للهيمنة.

في المجتمعات، المال القليل يجعل الناس يتعاطفون مع بعضهم، يتبادلون الخبز والقصص والهموم. لكن المال الكثير يخلق طبقات وأسوارًا، ويحوّل البشر إلى أرقام في قوائم الانتظار أو ضحايا في سباق لا ينتهي.

انظر إلى المدن الكبرى: في الأحياء الفقيرة، الناس يتشاركون الطعام والضحك رغم قلة الموارد. أما في الأحياء الثرية، تبنى الأسوار العالية، وتغلق الأبواب بإحكام، ويصبح التواصل بين البشر مشروطا بالرصيد البنكي.

المال القليل يذكرك أنك إنسان، أما المال الكثير فيوهمك أنك إله صغير قادر على شراء الولاء والاحترام وحتى الحب.

الفلاسفة الكبار تحدثوا عن المال باعتباره "وهما جماعيا". كارل ماركس رأى فيه أداة لتحويل العلاقات الإنسانية إلى علاقات مادية باردة. نيتشه اعتبر أن المال الكثير يقتل الإرادة الحرة، لأنه يجعل الإنسان عبدًا لرغباته. حتى سقراط، الذي عاش فقيرا، كان يرى أن الغنى الحقيقي هو في الاكتفاء لا في التكديس.

لكن الواقع اليوم يثبت أن المال الكثير لا يغيّر فقط حياة الأفراد، بل يغيّر اللغة نفسها: يصبح "النجاح" مرادفا للثراء، و"القيمة" مرادفا للسعر، و"الكرامة" مجرد بند في عقد عمل.

المال القليل يترك لك مساحة للتفكير في المعنى، أما المال الكثير فيحتل عقلك ويحوّل كل شيء إلى صفقة.

أمثلة معاصرة

  • لاعب كرة قدم يتقاضى ملايين مقابل ركل الكرة، بينما طبيب ينقذ الأرواح يتقاضى راتبًا بالكاد يكفي.
  • مؤثر على وسائل التواصل يبيع الوهم ويكسب ثروة، بينما كاتب مثقف يكتب كتبًا عميقة ولا يجد ناشرًا.
  • شركات عملاقة تشتري ولاء الحكومات، بينما مواطن بسيط لا يجد ثمن دواء.

هذه الأمثلة تكشف أن المال الكثير لا يساوي فقط "مسألة أخرى"، بل هو المسألة الكبرى التي تحدد مصائر البشر.

يومًا ما، قد يكتشف الناس أن المال ليس بشيء حقا، لكنه حين يتكاثر يصبح كل شيء: معيارا للنجاح، أداة للهيمنة، ووهما جماعيا يسيطر على العقول. وربما عندها يدركون أن السعادة لا تُشترى، لكنها تباع أحيانا في سوق الوهم، حيث الكثير من المال هو العملة الوحيدة المقبولة.