تمتلئ مجالسنا العامة بأحكامٍ قاطعة يطلقها غير المتخصصين في شؤونٍ معقدة، ورغم افتقار هذه الأحكام للعمق أو الشمولية، نجد أصحابها متمسكين بها حدّ اليقين، فهؤلاء يحاكمون العالم بناءً على تجاربهم الشخصية المحدودة، متناسين أن الرؤية من مقاعد المتفرجين ليست كالمواجهة في قلب الميدان.

مغالطة عدم التصديق الشخصي

تكمن العلة في سقطة منطقية تُعرف بمغالطة عدم التصديق الشخصي، وهي حالة ذهنية ينفي فيها الشخص إمكانية حدوث أمر ما، لمجرد أنه "يعجز عن فهم كيفية حدوثه"، إنهاجعل محدودية الخيال مقياساً للكون؛ فما لا يستوعبه عقلي، هو بالضرورة غير موجود أو خاطئ.

فرضية عبور الزمن حين يصبح الواقع مستحيلاً

لتدرك خطورة هذه المغالطة تخيل أنك عدت بالزمن مائتي عام ووقفت وسط الناس لتخبرهم أنك تملك قطعة زجاج صغيرة في جيبك، تمكنك من رؤية ومحادثة شخص في الطرف الآخر من الأرض في اللحظة نفسها، أو أنك تستطيع ركوب هيكل معدني ضخم يطير بك فوق السحاب ليصل بك إلى قارة أخرى في ساعات.

سيحكمون عليك فوراً بالجنون أو الكذب؛ ليس لأنك مخطئ، بل لأن عقولهم "لا تستطيع تصور" كيف ينتقل الصوت عبر الهواء أو كيف يطير المعدن الثقيل، لقد جعلوا من "عجزهم عن الفهم" دليلاً على "استحالة الواقع" فنحن اليوم نعيش في "مستحيلات" أجدادنا، وهذا تماماً ما نفعله حين نرفض حلولاً علمية أو سياسية معقدة لمجرد أنها لا تتماشى مع أدواتنا الذهنية البسيطة.

صنم المنهج الفكري والواقع المظلوم

إننا نرتكب خطيئة فكرية كبرى حين نتمسك بنفس المنهجيات التي سببت أزماتنا، ونطالب الواقع بأن يتغير ليتناسب مع أفكارنا، بدلاً من تطوير عقولنا لاستيعاب الواقع، هنا يصبح الفكر سداً يمنع دخول أي ضوء جديد؛ فالشخص لا يقبل إلا ما يوافق قناعاته المسبقة، تماماً كما يفعل معتنقو نظريات المؤامرة؛ حيث تتحول قناعاتهم إلى "معايير" يقاس عليها الحق والباطل مهما صدمتهم الحقائق.

كما تظهر هذه المعضلة بوضوح حتى في شؤوننا الخاصة؛ كالأب الذي يستسلم لانحراف ابنه بحجة أنه لا يتصور وجود حل، أو المريض الذي يرفض تشخيصاً دقيقاً لأنه لا يتوافق مع شعوره الشخصي تجاه مرضه.

التواضع المعرفي

إن صعوبة التصور لا تعني استحالة التحقيق بل تعني بالضرورة القصور في الإدراك لأن حياتنا اليوم هي صرخة في وجه هذه المغالطة؛ فلو استسلم العلماء لعدم قدرة الناس على التصور لما ركبنا البحر ولا غزونا الفضاء، ولذا علينا أن ندرك أن الحقيقة دائماً أكبر من حدود خيالنا وأن الاعتراف بالجهل هو أولى خطوات المعرفة.