ها هي المنصة الرقمية تتراقص أمام عينيّ كبُحيرةٍ مُرصَّعة بأسماء النجوم، لكنّ نجوماً بعينها اختفت فجأةً، تاركةً فراغاً يُطنُّ في الأذن كدويّ صمتٍ مُطبق. أولئك الذين اعتدنا أن نعبر معهم جسور الأفكار، ونُبحر في محيطات تأملاتهم، صاروا أشباحاً تطوف بهم الذاكرة دون أن تلمس حبراً جديداً. أيّتها الأقلام النابضة، أين غبتم عنا؟ لقد صار غيابكم جرحاً في جسد الحوار الفكري.
لستُ أتحدث عن كُتّاب عاديين، بل عن أولئك الذين صاغوا من حروفهم مرايا تعكس أعماقنا، ومن أفكارهم شموساً تُضيء زوايا الظلام في أرواحنا. كان ظهور مقالٍ جديد لهم كالمطر الذي يهطل على أرضٍ عطشى، يُنبت فينا زهور الأسئلة، ويُحرّك بركود اليقين. كانوا يُوقظون فينا النائم، ويُقلقون المُستكين، ويُجبروننا على مُواجهة ذواتنا في مرآة كلماتهم الصادقة.
أما اليوم، فأجدني أتجول بين أروقة المنصة كالمشرد الذي يبحث عن ظلّ شجرةٍ وارفة اختفت من حديقته. أفتح صفحاتهم المُثقلة بالصمت، أتلمس آخر مقال كتبوه كمن يلمس جمرةً باردة، وأتساءل: أين ذهب ذلك العقل الثرّ؟ أين اختفى ذاك القلب النابض بالحرف؟ كم من أسبوع مضى دون أن نسمع لهم همساً؟ وكم من فكرةٍ ولدت وماتت في دهاليز الانتظار؟
هذا الفراغ ليس مجرد بياض على الشاشة، بل هو جُرحٌ في نسيجنا الثقافي. كل يوم يمر دون إسهامهم هو يوم تُسرق فيه أرواحنا من محادثةٍ كانت تنتظر أن تولد، ومن فكرةٍ كانت تستعد للطيران، ومن سؤالٍ كان سيقلب موازين يقيننا. لقد صرنا كمن يجلس على مائدةٍ فاخرةٍ ناقصة الأطباق الأساسية، نلمس الملاعق والشوك، ونشم رائحة الطهي، لكنّ لُبَّ الوليمة غائب.
أتعلمون ما أقسى ما في الغياب؟ أنه يتحول إلى حضورٍ ثقيل. حضور الفراغ الذي يتسع كل يومٍ كالجرح الذي لا يندمل. صرت أرى ظلالهم في كل زاوية: حين تمر بي فكرة تحتاج لعمقهم، أو حين تدور نقاشاتٌ تفتقد لصراحتهم، أو حين تمر مواضيعٌ ساخنةٌ تنتظر نقدهم الجريء. صار متابعوهم كعشاقٍ هجروا فجأةً، يحملون جروح الانتظار في قلوبهم، ويتساءلون: هل نحن غير جديرين بإشراقهم الفكري بعد اليوم؟
أيتها الأقلام الغائبة:
إنّ صمتكم لا يُغلق أبواب الحوار فحسب، بل يُغلق نوافذ كانت تُدخل النور إلى عقولٍ كثيرة. إننا لا نطالبكم إلا بما وهبكم الله من نعمة الفكر والقدرة على البوح. لا تحرموا الفضاء من ضوء شموعكم، ولا تتركوا أفكاركم أسيرة السدود. فالقراء ليسوا مجرد أرقامٍ في صفحات إحصائيات، بل هم أرواحٌ عطشى تسير في صحراء المعرفة، وقد اعتادت أن تجد عندكم واحاتٍ تُنقذها من الظمأ.
التعليقات