في البداية كنت أبحث عن شيء ما، لكنني كنت مرهقًا من كثرة التفكير، وجائعًا من كثرة الاحتمالات. كل شيء حولي بدا مشوشًا، كأن ذاكرتي تُجلد في كل مرة أفتح فيها هاتفي؛ أرى طفلًا تحت الأنقاض، فأتألم، ثم أضغط "تخطي". وكأنّ شيئًا في داخلي صار يخبرني أن الحزن… ليس عمليًا.

ثم بدأ كل شيء يتحول إلى نكتة. مأساة تُختصر في "ميم"، دمعة تُرد عليها برمز تعبيري ضاحك، والمجتمع كله يصفّق لما يُضحك، حتى لو كان كذبًا. شعرتُ أنني أعيش في سيرك، فيه الضحك سيد، والحقيقة مهرّج عجوز يتلعثم وسط الضوضاء.

وفي لحظة من لحظات الصدق القليلة، التقيتُ بنفسي. في حوار داخلي طويل، وضعتني في قفص الاتهام. لماذا نسيت؟ لماذا تجاوزت؟ هل فعلت ما يكفي؟ لم أجد إجابة سوى أنني كنت مشغولًا بمحاولة الشعور بالارتياح… ولو بالكذب على نفسي.

وقتها، تمنيت وجود منقذ، بطل خارق يظهر فجأة ليحل كل شيء، ليعيد الحق، لينهض بنا، أو على الأقل ليرتب لنا أفكارنا. لكن البطل تأخر، أو ربما تعب. وانقسم الناس حولي، منهم من قرر أن يعتمد على نفسه، ومنهم من جلس ينتظر بطلًا جديدًا في كل موسم، ومنهم من عمل بجد… لكنه بقي يأمل.

وفي أوج هذا الضجيج، سمعتُ صوتًا خافتًا. كان الميكرويف يتحدث. لا، لستُ مجنونًا. فقط أدركت أن خصوصيتي لم تعد لي. الأجهزة تعرف عني أكثر مما أعرف عن نفسي. المرآة، الثلاجة، الهاتف… كلهم يسجلون، يرسلون، يراقبون. وأنا من وافق، أنا من ضغط "أوافق" دون قراءة أي شيء.

أمّا القبح فصار أمرًا مألوفًا. شيءٌ فيّي تغيّر. صرتُ أُعجب مما سخرت منه سابقا، أبتسم للرداءة، أصفّق للعشوائية، فقط لأني خفت أن أبقى وحدي. كأني أغمضت عينيّ على العالم… وقلت له: أنت جميل، فقط لا تصدمني.

ثم جاء الوقت. الساعة. الهاتف. النجاح الذي لا يأتي. وجلستُ معهم في اجتماع طارئ داخل رأسي. الكل يلوم الكل، وأنا ألهث… أريد أن أنجز، أريد أن أنجح، لكن لا أعرف فيمَ، ولا لماذا. أردتُ طريقًا مختصرًا للخلاص، فوجدت نفسي أركض في دائرة.

كل هذا، وأنا ما زلت في مكاني. لا منقذ، لا نهاية سعيدة، فقط سؤال يتردد داخلي كل ليلة:

هل حقًا كنت أبحث عن النجاة… أم فقط كنتُ أهرب من مواجهة ذاتي؟