منذ اللحظة الأولى التي بزغ فيها فجر الرسالة، اتضح أن العلاقة بين الدين والعلم لم تكن علاقة خصام أو تصادم، بل علاقة متينة متداخلة في جوهرها. لم تكن المصافحة الأولى بين السماء و الأرض بكلمة سيف أو حرب، بل بكلمة "اقرأ"؛ تلك الكلمة التي فتحت أبواب العقل قبل أن تفتح أبواب الغيب، و جعلت من المعرفة مدخلا للنبوة، و من الوعي شرطا لفهم الوحي.

لم يكن النبي مجرد ناقل لرسالة، بل كان حاملا لمشروع معرفي، ينهض بالإنسان لا بتكليفه فقط، بل بتحفيزه على التفكير والبحث. من هنا نفهم أن الإسلام لم يكن جامدا ولا متوقفا عند لحظة تاريخية، بل دينا متحركا يتفاعل مع التحولات الكبرى التي يعرفها العقل البشري والزمن الحضاري.

لكن مع مرور القرون، ظهرت أصوات تدعو إلى تثبيت الدين في قوالب مغلقة، تحت مسمى "الثوابت"، وكأن الدين قد خلق ليجمد، لا ليعيش ويتطور. هؤلاء غفلوا عن أن التغير هو سنة الوجود، وأن الجمود موت بطيء للفكر والروح.

خذ مثلا قضية الميراث، التي كانت في زمن ما منسجمة مع واقع اجتماعي معين: الرجل يعمل، والمرأة تعتمد عليه اقتصاديا، فكان من المنطقي أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين. لكن الزمن تغير، والمرأة اليوم تشتغل وتنتج وتشارك بفاعلية في بناء اقتصاد الدول. أليس من حقنا أن نعيد النظر في هذا الحكم بمنهج علمي، يستحضر الواقع ويخاطب حاجاته بإنصاف وعدل؟

وكذلك زواج القاصرات، الذي كان يوما مرتبطا بعادات اجتماعية تحكمها ظروف الفقر والخوف من المجهول. أما اليوم، فالقاصر طفلة، لا يطلب منها إلا أن تتعلم وتنمو وتدرك ذاتها. لم تعد تصلح تلك الأعراف القديمة أن تفرض على جيل جديد يعيش وسط ثورة معرفية و إنسانية شاملة

أما الحديث عن "طاعة المرأة لزوجها"، فهو مفهوم لم يعد يلائم روح العصر، حيث لم تعد الأسرة قائمة على التبعية بل على الشراكة. اليوم نحتاج إلى علاقة تقوم على الاحترام المتبادل، على التكامل لا السيطرة، وعلى الحوار لا التلقين.

نحن لا نعيش في زمن الغزوات ولا في عالم الخيول والسيوف، بل في زمن الذكاء الاصطناعي، والاتصال اللحظي، وصناعة الإنسان القادر على التأثير لا التبعية. ومن هنا، فإن تطوير المفاهيم الدينية من خلال أدوات العلم والمعرفة، لم يعد ترفا، بل ضرورة تمليها الحاجة إلى التوازن بين الثابت و المتغير

العلم وحده هو القادر على إعادة قراءة النصوص، وعلى توسيع الأفق لفهم أعمق للرسالة. هو من يصنع الجيل الذي يبني و يبدع، و ينافس الأمم لا بالشعارات، بل بالصواريخ والطاقة والبحث العلمي. في زمن كهذا، لا يكفي الدعاء وحده، إن لم يكن مسنودا بعقل واع، و قلب يقظ، و فكر يعرف إلى أين يتجه.