الكثير من الناس في الوطن العربي يعتقدون بأن العمل ضمن فريق أمر لا فائدة منه، وأنه من الأفضل له أن يعمل منفرداً، أو يجد طريقة لإجبار من يعملون معه على تبني أسلوبه وطريقته وفلسفته الخاصة، وهذا يعود بالطبع للنزعة الفردية التي اكتسبها سكان الحضارة الحديثة، التي صارت تقدس الفرد على حساب الجامعة وتنسب الأعمال العظيمة لأشخاص بعينهم، بغض الطرف عن من ساعوده في إنتاج ما صنع.
كمثال إذا نجحت إحدى الشركات ينسب كل الفضل إلى ال SEO أو المدير التنفيذي الخاص بها، رغم أنه وحده لن يتمكن من تحقيق ذلك النجاح، لكن حضارتنا دائما تبحث عن الفرد الذي ينسب إليه كل الفضل، وهكذا في الأفلام والمطابخ بل وعلى مستوى الدول والحروب، الشخصية البطل في القصة هو من يحصد الثناء دائمًا وقد يبدوا هذا طبيعياً، لكن في الحقيقة هذه الطريقة في التفاعل مع الموضوع غير دقيقة أو موضوعية.
والسبب في ذلك هو أن هذه النظرة القاصرة للنجاح تحصره في جهد شخص واحد، وتتجاهل مئات الجهود الأخرى التي تصنع الغالبية العظمى من ذلك النجاح، فالمخرج المميز لا شيء بدون كاتب مميز، ومدير تصوير مميز، وممثلين مميزين، حتى المسؤولين عن لباس ومكياج الممثلين لهم دور كبير في نجاح العمل، وقد سمعنا عن أعمال كثيرة تاريخية كان واحد من أهم أسباب السخرية منها هو وجود اكسسوارات من العصر الحديث فيها، وهذا يدل بوضوح على أن الإنجازات العظيمة ما هي إلا أعمال جماعية تقوم بها فرق متخصصة بشكل احترافي، ويؤكد أن العمل الجماعي هو السبيل الوحيد لتحقيق النجاحات العظيمة، وأن الفردية لن توصل إلى أي شيء.
إلا أن النظرة الملحمية لأبطال قصص النجاح تجعلنا ننظر إليهم على أنهم أصحاب الفضل في كل شيء، ونصدق أنهم تمكنوا من التفكير في كل التفاصيل، وهذا بالطبع تصور خيالي، فحتى لو كنت عالم ذرة ستظل زوجتك أفضل منك في شراء بقالة المنزل، لأنك ببساطة لا تهتم بتلك التفاصيل، رغم أن جودة الطعام الذي يدخل جسمك مهمة كأهمية أبحاثك العلمية نفسها، لأنها تؤثر على صحتك وأدائك العقلي.
ما أريد قوله هو أن النظرة السطحية لصاحب الإنجاز الكبير ونسب كل شيء له يتسبب في خلق معتقد فاسد في عقول الناس، مفاده: أنك إذا أردت أن تكون ناجحًا عليك أن تكون وحدك، وأن الرحلة فردية.. وأن الطريق بلا رفقة.. وكل هذا الهراء المنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا الكلام خطير، لأنك لو تمعنت في قصص الناجحين كلهم، ستجدهم تلقوا الدعم في وقت ما سواء بمقابل أو بدون، وسواء قدروا هذا الدعم ام لا، كمثال: قام صاحب موقع فيسبوك بمشاركة أصدقائه في فكرته لكي يحصل على تمويل، وقام بتعيين فريق مهندسين لديه قدرة على العمل تحت ضغوط كبيرة، ليتمكن من رفع كفاءة موقعه، لذا فإن مارك ليس هو من صنع فيسبوك، إنما حصل على الفكرة من صديق له، وقام بتموليها من صديق آخر، وحصل على مساعدة محترفين في تطويرها، لذا فهذا عمل جماعي متقن، وليس مجرد جهد شخصي، ولو رفض أياً منهم مساعدته منذ البداية، لكنا الآن جميعًا تحت رحمة منصة توتير بلا أي بديل.
الفكرة أن هذا المعتقد المغلوط عن النجاح الفردي يصعب على الشخص الطموح العمل ضمن فريق، لأنه يفقد أهم مهارة لازمة لكي يتمكن من النجاح في أي فريق، وهي مهارة التقبل، ولا أقصد هنا الرضى أو الخضوع للأمر الواقع، بل أقصد تقبل فكرة العمل ضمن فريق، والتفرقة بينها وبين العمل الفردي، واحترام كل أفراد الفريق، ولكي يحدث هذا على كل فرد أن يتمتع بالمرونة النفسية والعصبية التي تؤهله لتقبل كل عناصر الفريق التالية:
أولا: الاتفاق والعقد
أي فريق عمل في العالم لابد له من اتفاق أو عقد ينظم الحقوق والواجبات بين أعضائه، لضمان عدم الظلم أو التقصير أو الانسحاب، ولضمان تحمل المسؤولية والعواقب المترتبة عليها، وأهم خطوة في تقبل العمل ضمن فريق، هو تقبل الاتفاق المبرم بين اعضائه سواء كان ضمني أو مكتوب، وقد يبدوا الكلام بديهياً، إلا أنه من المفاجئ معرفة أن أغلب مشاكل الفرق تأتي من عدم تقبل أو احترام اتفاقتها، فالجميع مثالي ومتحمس في البداية، لكن بمجرد البدئ في العمل وظهور الضغوطات والعيوب، يحاول البعض الإنسحاب أو يقصرون بشكل كبير، وهذا نتيجة عدم إظهار حقيقة رفضهم للاتفاق المبرم منذ البداية، وظنهم بأنها مجرد أمور شكلية لا معنى لها، لذلك فأهم شيء في العمل كفريق هو احترام عقد الفريق المبرم، وإلا فمن البداية لا تدخل فيه، وبالطبع من المهم عند بناء فريق عمل هو توضيح كل بنود هذا الاتفاق من البداية والإجماع عليه.
ثانياً: الدور والتخصص
داخل الفريق يكون لكل فرد منه دور محدد، يقوم به بالشكل الذي يناسبه، ولا يجوز لاي فرد آخر أن يتدخل في عمله دون مبرر واضح، ولذلك يجب على الجميع أن يتقبل تخصصات كل في الفريق، وهذه النقطة بالذات السبب في فشل معظم الفرق والتحالفات، بسبب التدخلات الغير مبرره في تخصصات الأفراد داخل الفريق، فمثلا على صعيد الأفلام: يجوز للمخرج التدخل في عمل كل أفراد طاقم الفيلم، لكن لا يجوز للمثل مثلا توجيه المصور، أو ان يتدخل مدير التصوير في عملية المونتاج، هذه الأدوار متخصصة ويجب احترامها لكي لا يتم استفزاز أحد لمشكلة من العدم.
ثالثاً: الاختلاف والتمايز
من الطبيعي أن تختلف طرق عمل كل فرد من الفريق، وأن يكون هناك فارق في الجهد المبذول، والقدرة على الإبداع والتحمل وغيره، ولذلك فمن المهم تقبل كل فرد من الفريق بمميزاته وعيوبه، ومحاولة الاستفادة منه بدون مشاكل، والإيمان بأن هذا الاختلاف يمكن أن يمد الفريق بالروح والوقود الذي يدفعه للأمام، وإلا قد يؤدي التركيز على الاختلافات، إلى إثارة المشاكل والغيرة، وقد يفشل الفريق بالكامل بسبب تلك النقطة، وهذة هي أصعب نقطة يمكن تقبلها، لأن الثقافة المادية السائدة لا ترحب بالاختلاف، لكن احترام الاختلافات وتقبلها يمكن أن يصنع أعمال عظيمة، لأن المبدعين قد يكونون غريبين الأطوار أحياناً.
رابعاً: الخطأ
هنا الأمور تتعقد كثيراً، تقبل الاختلاف ممكن لكن تقبل الخطأ، يعتبره البعض ملائكية ومثالية زائفة، رغم أني اتعجب فكيف يمكن لتقبل النقص البشري أن يكون من صفات الملائكة! لكن على العموم فتقبل الخطأ هنا ليس بتجاهله، إنما بمحاولة التعلم منه وفهم أبعاده، أما عدم تقبل الأخطاء في الفريق ومحاولة تجنبها ومعنها يؤدي دائماً إلى تراكمها وزيادتها، لأن منع الأخطاء يحمل صاحبه على تجاهلها، أو الحساب عليها بشكل عنيف، وهذا يؤدي دائماً إلى الفوضى والهبوط والفشل، بسبب عدم التعلم من الأخطاء كما وضحت في المقال السابق، فإذا كنا لا نستطيع تقبل أخطاء أنفسنا، كيف سنتقبل اخطاء الغير؟!
خامساً: التنسيق
حتى مع اتفاق وتفاهم الفريق كله، قد تظهر بعض المشاكل والعقبات، لذلك فمن المهم أن يكون للفريق طريقة للتواصل ولحل المشاكل والخلافات داخله، فالتنسيق الجيد يضمن استمرارية الفريق، ويحسن من ادائه، فطريقة عمل الاجتماعات، واستقبال الشكاوى والاقتراحات، وكيفية التعامل مع الأعذار وغيرها الكثير من الامور، التي يجب التفكير فيها جيداً قبل اختيار الفريق الذي ستعمل معه.
سادساً: النتائج
"جيد لكن يوجد ما هو أفضل، ما هو أحسن" تلك العبارة دائما ما تردد على ألسن مديري الشركات وقادة الفرق، وتلك العبارة على قدر ما بها من مرونة، والبعض يعتبرها أسلوباً مثالياً في الإدارة، إلا أنها عبارة سامة ومحبطة كثيراً لبعض الناس، فالبشر ليسوا على طبيعة واحدة، البعض يزيد إنجازه إذا شعر بقيمة ما يصنع، والبعض يجب ألا نبالغ في مدحه، والبعض يهتم أكثر بالتقدير المادي، وهكذا...، لذلك لا بد لأي فرد من الفريق أن يتقبل النتائج ويقيمها تقيماً عادلاً، حتى لا يحبط فريقه، وقد رأينا فرقاً كاملة تنهار وقادة يتخلى عنهم فريقهم بسبب عدم رضاهم عن النتائج وعدم تحفيزهم للفريق.
سابعاً: الآراء
تقبل الرأي المخالف أصعب من تقبل أي شيء آخر في العالم، وخاصة لو تم طرحه بطريقة غير مناسبة، لذلك فمن المهم عند العمل ضمن فريق مراعاة مشاعر كل فرد فيه، وتقبل آرائهم خاصة عند طرحها بالطريقة المناسبة، لأن عدم تقبل آراء أعضاء الفريق أو تجاهلها وحرمان الفريق من حق النقاش، يمكن أن يؤدي إلى تفكك الفريق وفشله في مهمته.
ثامناً: القائد
معضلة القيادة صعبة للغاية، لأن الجميع يرغب في أن يكون القائد، ويحسدون القائد على مكانه، وهكذا يفكر بعض القادة، لذلك تظهر العديد من المشاكل والأزمات بين القائد والفريق، والتي اعرفها بسم فجوة السلطة، وهي حالة يفقد فيها القائد قدرته على التواصل الفعال مع فريقه، بسبب عدم تقبله لهم وعدم تتقبلهم له، فيلجأ في تلك الحالة إلى أساليب بدائية للتحكم في الفريق، منها العنف اللفظي والنفسي، والتسلط والابتزاز وغيرها من الأساليب، وهذا إن نجح يكون نجاحه سطحياً فقط، ويعمل طاقمه فقط من أجل الخلاص منه، لذلك فمن المهم تقبل قائد الفريق لفريقه والعكس، والتعامل على أساس المحبة والاحترام المتبادل، لأن هذا ما سيصنع المجد الحقيقي في النهاية، وكلنا نشاهد فرق كرة القدم التي تحب مدربها كيف يكون ادائها في الملعب.
أخيراً: المستشار
لكل فريق يجب أن يكون هناك شخص جزء من تخصصه التحليل والتفكير في مسار الفريق ومستقبله، لأن القائد لا يملك دائما الصورة الكاملة، لذلك عليه وعلى كل أعضاء الفريق أن ينتبهوا لأراء المستشار ويفكروا فيها، لأنه يقرأ تحديات ومشاكل المستقبل، ويبصر الفرص والتحديات، فعدم احترام المستشار الخاص بالفريق يؤدي إلى الوقوع في مشاكل كبيرة وازمات ضخمة، وذلك لأن البعض يعتقد بأن المستشار مجرد شخص متفائل أو متشائم بشكل زائد عن الحد، وهذا طبعًا جهل بدوره في الفريق.
وبناءاً على ما سبق يكون نجاح الفريق في تقبل أفراده للبنود السابقة، وأي محاولة للتصرف بفردية وأنانية في عمل الفريق يؤدي إلى فساده بالكامل، فالفريق صنع ليعمل ككتلة واحدة، وليس لينسب عمله إلى شخص واحد، لذلك فأنا مثلا عندما امدح صناع فيلم جيد، أقول بأنه عمل الاستديو الفلاني أو الشركة الفلانية ككيان وفريق واحد، كأعمال استديو بيكسار الذي ابدع في إنتاج العديد من أفلام الانميشن المتميزة والممتعة، وقد خرجت هذه الأعمال بتلك الصورة المثالية، لأنهم جميعًا تصرفوا كوحدة متكاملة، صنعت أعمالاً عظيمة، وتلك هي الطريقة المناسبة للنظر إلى عمل الفريق.
التعليقات