رأيت وأنا أسير في إحدى المقابر ضريحا كتب على خامته:
(هنا يرقد الزعيم السياسي والرجل الصادق ...) فعجبت كيف يدفن الاثنان في قبر واحد
تشرشل
السياسي لا أخلاق له، و السياسة تستلزم أن يكون ممارسها مخادعا، محتالا، كاذبا، ثعلبا ماكرا أو ... تنينا كما قال هوبز. قد تكون هذه النظرة الأكثر عامية للسياسي أي التي يحملها معظم الناس كتصور أولي عن السياسة و كل ما يرتبط بها. لكن، إلى أي حد يمكن أن يكون ذلك صحيحا؟ إلى أي حد يمكن أن تفترق السياسة و الأخلاق؟ و أليس هنالك نقاطا مهما كان حجم أهميتها يمكن أن يلتقي فيها هذان الحقلان؟
دعوني أولا أقدم تعريفا سريعا عن المفهومين محور الحديث: السياسة و الأخلاق، لتتضح الصورة أكثر:
- السياسة:
هي لغة من ساس يسوس، من ساس الغنم أي رعاها بما تستوجبه من علف و رعاية ... إلخ. و عليه فهي هنا القيام بشؤون البلاد بشكل عام سواء الداخلية أو الخارجية.
- الأخلاق
مجموع القيم و السلوكات التي تتصف بالحسن.
- العلاقة بين السياسة و الأخلاق
كما نستشف من مقولة تشرشل أن لا علاقة بين السياسة و الأخلاق فلا بد إن وُجدت الواحدة أن تنتفي الأخرى، فإنّ مكيافللي قبله كرّس لهذه النظرية بشكل أكثر إيضاحا من خلال كتابه ''الأمير'' و شعاره الشهير:
الغاية تبرر الوسيلة
فيجعل كل شيء مباحا في السياسة ما دام الهدف من ذلك الحفاظ على الدولة، فتتسع بالتالي الهوة العميقة بين الأخلاق و السياسة.
بالمقابل، يجمع أفلاطون بين الاثنين في ''الجمهورية'' أو المدينة الفاضلة المثالية حيث ينبغي للحاكم أن يتسم بالحكمة، الشجاعة، العفة و العدالة. لكن إن كانت جمهورية أفلاطون مثالية و أبعد ما تكون عن الواقع، فإنّ ابن خلدون -مؤسس علم الاجتماع- يجمع هو الآخر بين السياسة و الأخلاق (أو بالأحرى الدين بوصفه مكارم الأخلاق) في إطار أكثر واقعية، و إن كان يرى أنّ الحكام يتصفون ب''التوحش''. و بقاء عند العلماء المسلمين فإنّ الماوردي هو الآخر يرى أنّ السياسي لا بد أن يكون قدوة حسنة و أن يتسم بالصدق في حين تنحصر الضرورة للكذب في إطار الحروب فقط.
إن السياسة و الأخلاق يلتقيان في أنّ كلاهما يهدفان لتحقيق الخير للبشرية و المنفعة العامة، و يختلفان في أنّ السياسة وسيلة في حين أنّ الأخلاق (العدل كمثال) هي الغاية.
لكن في خضم عالمنا اليوم، لا يخفى على أحد أنّ القوة ضرورية، و أن السياسة شبه متجردة من الأخلاق بحيث انتشر الفساد بشكل مهول، بعبارة أخرى أكثر إيضاحا: انتشرت البراغماتية فأصبح السياسي يعمل لمصالحه الخاصة لتفقد السياسة هدفها الأساس: تحقيق النفع المشترك و التقدم للدولة و الحفاظ عليها و على أهلها، و عليه تنتشر الفوضة في العالم (العربي بالخصوص) و يطغى ما يُسمى بقانون الغاب: البقاء للأقوى.
و رغم ضرورة الأخلاق في السياسة حتى لا تزيغ هذه الأخيرة عن هدفها الأساس فلا بد أن يتّصف ''الحاكم'' بالدهاء، لباقة الحديث، قوة الخطابة .. إلخ بشكل لا يتحرر من دائرة الأخلاق ليجعل بذلك السياسة أكثر مرونة في المضي قُدما بالدولة و الشعب.
فهل ترى أنّ السياسة لا بد أن تلازمها الأخلاق، أم العكس؟
التعليقات