#تجوع_الحرة_ولا_تأكل_بثدييها

لم تكن الأنثى التي قرأت هذا المثل، تعلم القصة التي دارت حوله، ومن هي الحرة التي قِيل في حقها هذا المثل، وهل هي محقة في أمرها، أمَ أنها جريئة حين قالت ما قالت. 

ويعود أصل هذا المثل لرجل شائب يُدعى "الحارث بن سليل الأسدي"، وكان شيخًا كريمًا ذا مال وحسب، زار يوما صاحبًا له يُدعى "علقمة بن خصفة الطائي"، وكانت له ابنة تُدعى "الزّباء"، وهي في غاية في الحُسن والجمال، فأُعجب بها الحارث، وقرر أن يتزوجها.

فقال لصاحبه:

أتيتُك خاطبًا، وقد ينكِحُ الخاطب، ويُدرَك الطالب، ويُمنح الراغب

فقال له علقمة: أنت كُفؤ كريم، يُقبل منك الصفو، ويؤخذ منك العفو، وحالًا أقم وأنظر في أمرك، ولا ترجع خائبًا في طلبك

فذهب إلى أمها، فقال: قد أتى الحارث بن سليل سيد قومه حسبا ومنصبا وبيتا، وقد خطب إلينا الزباء فلا ينصرفن إلا بحاجته

كانت الأم تعلم بصعوبة الأمر، وكان إقناع ابنتها الزباء من أشد ما ستواجه، فدخلت معها في حوار استدراجي دار بينهما كالتالي:

الأم: أي الرجال أحب إليك؟

الكهل الجحجاح والواصل المنّاح، أم الفتى الوضّاح؟

والجحجاح سيد قومه الندي والجواد وصاحب العطاء. 

فردت البنت: لا ، بل الفتى الوضاح

الأم: إن الفتى يُغيرك، ويتزوج عليك، وإن الشيخ يُميرك ويقضي حاجاتك، وليس الكهل الفاضل، الكثير النائل، كالحديث السن، الكثير المن.

فردت البنت: يا أمتاه إن الفتاة تحب الفتى* كحب الرعاء أنيق الكلأ

الأم : أي بنية، إن الفتى شديد الحجاب، كثير العتاب 

البنت: إن الشيخ يُبلي شبابي، ويدنس ثيابي، ويُشمت بي أترابي 

فلم تزل أمها تقنعها بأفضلية الشيخ على الفتى في أمور الزواج وحفظ الفتاة وصونها، حتى غلبتها على رأيها، فتزوجها الحارث على مائة وخمسين من الإبل، وألف درهم، ثم رحل إلى قومه.

ولكم أن تتوقعوا طبيعة العلاقة الزوجية بين فتاةٍ تتوهج أنوثةً وشبابًا وفُتوة كالزباء، وبين شيخٍ عجوز أهلكه الدهر، ووهن عظمهُ، وكثر أنينهُ، ثم ما زيادة أن يكون سيَّد قومه، فالهرم والسقم لا يعرفان أحد. 

فبينما هو ذات يوم جالس بفناء قومه وهي إلى جانبه، إذ أقبل شباب يتصارعون فيمَ بينهم، وتنبعث منهم حرارة الشباب وقوته، ووهجه وقيمتهُ، فنظرت الزباء إلى أولئك الشباب بحسرة، وتنفست الصعداء، ثم أرخت عينيها حتى اغرورقتا بالبكاء ندبًا من حظها، وندمًا على نصيبها التعيس، الذي يُقعدها مع شيخٍ قارب التخريف! 

وكيف لا تتحسر على زهرة شبابها؟ وأيامها التي تنقضي مع من لا يعطيها ويوفيها حقها؟ 

أحسها الحارث، فالتفت إليها وقال: ما يُبكيك؟

فردت الزباء بصريح العبارة وقالت: مالي وللشيوخ، الناهضين كالفروخ!

فأنشد الحارث:

تهزّأتَ أن رأتني لابسا كِبرا

وغاية الناس بين الموت والكبرِ

فإن بقيتِ لقيتِ الشيب راغمة 

وفي التعرّف ما يمضي من العبر

ثم قال لها: ثكلتك أمك، تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، أما وأبيك لرب غارة شهدتها، وسبيّة أردفتها، وخمرة شربتها، فالحقي بأهلك، فلا حاجة لي فيك. 

وقصد الحارث بمقولته: أن الحرة لا تأكل أجرة ثدييها جراء الإرضاع فقط، فذلك عار عليها، فإن تزوجت وجب عليها أن يكون كل حسها مع زوجها حتى لو لم يوفيها حقها. 

هل اخطأت الزباء حين صارحت الحارث، وهل دمعتها وتحسرها عيب بحقها، ألم تبحث عن كُفءٍ في عز شبابه وغلوائه، يُكافئ جمالها فيتزوجها، وإن كان مُعسرًا؟خيرٌ لها من ذلك الشيخ ولو كان سيدًا موسرًا. 

هل أصبح خطأها كبيرًا حين فضحتها دموعها، وأخذتها النُهد واحدة تتبعها الأخرى حتى أصبحت حريقًا يشتعل في أحشائها ما لها من سبيل إلى إطفائه، وهي الحُرة العربية، الندية الأبية.