لقد كثر الحديث مؤخرا عن تعويض الغاز الروسي المصدّر إلى دول الاتحاد الأوروبي حتى قبل بداية الحرب على أوكرانيا، وكان ذلك ضمن سياسة الولايات المتحدة وحلفائها لثني بوتين عن غزو الدولة الجارة، فلجؤوا إلى التلويح بورقة العقوبات بعلانية وبحماسة كبيرة، إلا أنهم وخاصة دول الإتحاد، كانت ولاتزال تذكر ملف الغاز باستحياء.
وقد أكد بوتين سابقا بأن دولته لن تتوقف عن تصدير الغاز إلى "الدول الغير صديقة" في إشارة منه إلى دول الاتحاد ودول كثيرة أخرى كالولايات المتحدة واليابان، لكن الأرق لا يغادر زعماء الدول "غير صديقة" خشية أن يتم غلق حنفيات الغاز بين ليلة وضحاها والرمي بالعقود المبرمة عرض الحائط.
وكل ذلك في ظل عجز كبير من هذه الدول عن الاستغناء عن الغاز الروسي في الأمد القصير والمتوسط، فالإحصائيات تظهر أن دول الاتحاد تستورد أكثر من 40 بالمائة من حاجياتها من الغاز من روسيا، والباقي مقسم على دول أخرى كالجزائر والنرويج وقطر.
وقد دأبت الولايات المتحدة - غريم روسيا التقليدي - على تنبيه دول الاتحاد من مخاطر الاعتماد الشبه كلي على الغاز الروسي، ولذلك خلفيات سياسية أكثر من كونها قرائات مستقبلية للحرب الدائرة حاليا - وقد حاول ترمب بيع الغاز الأمريكي سابقا إلى أوروبا وفشل -. فهدف الولايات المتحدة هو إبقاء العالم على النظام العالمي القائم حاليا والذي يعدّ أحادي القطب، ورغم أن روسيا لا توازي أمريكا من حيث الإقتصاد، إلا أن ترسانتها العسكرية التي ورثتها عن الاتحاد السوفياتي والتي طوّرتها على مدار السنين الماضية كانت ولا تزال حسكة في حلق أمريكا. وخاصة الترسانة النووية التي حصدتها من دول الاتحاد السوفياتي سابقا والتي وضعت روسيا في مرتبة القوى العسركية العظمى في العالم. وبالحديث عن الترسانة النووية، فإن هذه الأخيرة هي من تعطي الحجم لأي قوى عسكرية في العالم، لأن وقبل كل شيء، تحتاج الأسلحة النووية إلى تكنولوجيا متقدمة جدا، وفور الحصول على المادة الخام لهذه الأسلحة، فإن تطوير الصواريخ العابرة للقارات وأسلحة الدمار الشامل والصواريخ الفرط صوتية بأضعاف مضاعفة ليست سوى مسألة وقت وهذا بالضبط ما يدفعل إسرائيل إلى الجنون بسبب تقدم أبحاث إيران في المجال النووي.
إذن فإن الوعاء الروسي الكبير ليس متمثلا فقط في المساحة الجغرافية، لكن أيضا في الثروات الباطنية الغنية كالنفط والغاز والمعادن الثمينة التي تصدّر إلى العالم، هذا ناهيك عن القمح، فروسيا تعدّ من أكبر المصدّرين للقمح في العالم جنبا إلى جنب مع أوكرانيا، وهذا ما سبب في ارتفاع أسعار القمح في السوق الدولية بعد أيام قليلة من الحرب واصبحت دول كثيرة مستوردة للقمح في فم المدفع على رأسهم مصر أكبر مستورد لهذه المادة في العالم وخاصة من هاتين الدولتين، روسيا وأوكرانيا.
إلا أن مشكلة دول الاتحاد الأوروبي ليس القمح، إنما الغاز الذي تحتاج إليه مصانعها الكثيرة ومحطات توليد الكهرباء والاستعمال المنزلي، إضافة إلى قرب موسم ملئ الخزانات استعدادا لفصل الشتاء المقبل. ولهذا أبدت الولايات المتحدة استعدادها لتحويل قرابة الثمانين حاوية لنقل الغاز باتجاه أوروبا. إلا أن ذلك بعيد كل البعد عن استبدال الغاز الروسي، ثم وبعد هذه الخطوة التي لا يتمخّض منها شيء سوى بيع أمريكا لغازها إلى أوروبا وبثمن باهض كون الغاز سيتم نقله بحاويات أي أنه سيحتاج إلى عملية إسالة في الموانئ وهذا سيزيد من تكلفة استعماله على غرار تكلفة نقله بحكم البعد الجغرافي، إذن بعد هذه الخطوة، تأتي البدائل الأخرى، النرويج، الجزائر وقطر.
العامل المشترك هو أن الدول الثلاثة لا يمكنها تعويض الغاز الروسي، ففي حين أن الإتحاد الأوروبي يستورد 46 بالمائة من استهلاكه من روسيا، يستورد 20 بالمائة من النرويج، 11 بالمائة من الجزائر و 4 بالمائة من قطر. ببساطة، الفجوة التي قد يخلفها غياب الغاز الروسي ستكون هائلة ومدمرة للاقتصاد الأوروبي. وخاصة وكل التخصيص لألمانيا وإيطاليا التي تعتمدان كثيرا على الغاز الروسي.
وقد طرح في سنوات ماضية مشروع إنشاء أنبوب غاز يربط الجزائر بألمانيا ويمرّ بإسبانيا وفرنسا، لكن ألمانيا في ذلك الوقت لم تكن مهتمة بالمشروع كثيرا وتم إيقافه بعد إنشاء 87 كيلومتر من الأنابيب، لأن الحكومة الألمانية آن ذاك كانت تعوّل على التحول الطاقوي حتى تبيّن لها أن المشروع مكلف كثيرا وقد يستغرق عقودا كثيرة في ظل الأزمات الإقتصادية المتتالية والتضخم الكبير الذي ينهش أوروبا.
أما إيطاليا التي تستورد نصف حاجياتها من الغاز من روسيا، فقد كثّفت زياراتها إلى الجزائر مؤخرا حتى نالت الأمس زيادة كبيرة في الغاز المصدر إليها من الجزائر .
وبالحديث عن الجزائر، فقد ترددت الأخيرة كثيرا في اتخاذ أي اجراء كان يمكن أن تفهمه موسكو على أنها منافسة أو طرح للنفس كبديل عن الغاز الروسي، لهذين البلدين علاقات سياسية وعسكرية وطيدة جدا لم تقدر أمريكا على حلحلتها لسنين، وقد زار بلنكين الجزائر منذ أسابيع وقيل في بعض الصحف العالمية أن الزيارة لإعادة بعث أنبوب الغاز الآتي من الجزائر والذي يمر عبر المغرب باتجاه اسبانيا بعدما لم يتم تجديد عقده نهاية العام الماضي لأسباب سياسية بين البلدين .
وبفقدان الأنبوب المغاربي فقد فقدت أوروبا فرصة أخرى لتعويض قدر آخر من الغاز الروسي، حتى أن النرويج ثاني أكبر مصدر للغاز لأوروبا لا تقدر وحدها على فعل الكثير، وكذلك أذربيجان التي يربطها خط أنبوب وحيد بأوروبا عبر تركيا إلى اليونان. أما قطر التي كان بايدن يعوّل عليها كثيرا، فإنها لم تقدر فعل أي شيء لسببين اثنين.
أولهما البعد الجغرافي الكبير بين أوروبا وقطر، وكلما زادت المسافة، زادت تكلفة النقل، وزادت تكلفة الغاز، ثم إن لقطر عقودا كثيرة مع دول آسياوية ولا يمكنها أن تخاطر بحدوث اي تذبذب، وحتى أن هذه الدول قد تضغط على قطر حتى لا تقوم بزيادة كبيرة في الغاز المصدّر إلى أوروبا يمكن أن يمسّ بحصصها كما تنص العقود المبرمة.
إذن بالمختصر المفيد، تعويض الغاز الروسي حاليا مسألة خيالية، وروسيا على علم بذلك، حتى أنها لم تتردد في إصدار قانون يلزم الدول المستوردة بدفع المستحقات بالروبل، وهذه مناورة للحد من الهبوط المستمر للعملة الروسية، ثم إن العملاق الصيني لم يعارض روسيا في حربها على أوكرانيا، وكذلك الهند وهاتين الدولتين تستوردان كميات هائلة من النفط والغاز من روسيا، فإن حدث وتوقف الغاز الروسي عن أوروبا، فإن المتضرر الأكبر ستكون دول الإتحاد الأوروبي.
التعليقات