■ علم أعصاب                                                       

🧠 كيف تتشكل ذاكرتنا

حاول عزيزي القارئ أن تتذكر لحظةً مهمةً في حياتك، كان ذلك سهلاً أليس كذلك؟ الآن حاول تذكر ما تناولته على الغداء قبل أسبوع، قد تجد صعوبةً في التذكر الآن. ولكن لماذا؟ لماذا نتذكر بعض اللحظات وليس غيرها؟ ولماذا تتلاشى الذكريات مع الزمن؟ دعونا بدايةً نتعرف على كيفية تشكيل الذكريات ونغوص في هذا الموضوع المثير.

يمكن تعريف الذاكرة على أنها القدرة على ترميز وتخزين واسترجاع الخبرات والمعرفة، وتتنوع الذاكرة بين قصيرة وطويلة الأمد. يعتمد تكوين وحفظ الذكريات طويلة الأمد على آلياتٍ جزيئيةٍ تشمل تعبيراً جينياً منسقاً ومنظماً واصطناعاً لبروتينات المشابك العصبية [1].

تحدث هذه الآليات في جمهرةٍ محددةٍ من الخلايا العصبية تسمى خلايا انغرام Engram [2]، وهي خلايا موجودة في الحصين إضافةً إلى أجزاء أخرى من الدماغ. وقد أثبتت العديد من الدراسات السابقة أن هذه الخلايا تشكّل شبكاتٍ عصبيةٍ مرتبطةٍ بتشكيل ذكرياتٍ محددة، وتتفعّل هذه الشبكات عند استعادة هذه الذكريات. على الرغم من الدراسات المكثفة، فإنَّ الآليات الجزيئية التي تتحكم بتخزين الذاكرة واسترجاعها لم تزل غير مفهومةٍ على نحوٍ كاف.

التحكم بواسطة التعديلات فوق الجينية (علم التخلق)

من الآليات الجزيئية المقترحة والتي قد تؤدي دوراً أساسياً في عملية تشكّل الذاكرة لدينا هي التعديلات فوق الجينية في بنية الجينوم ثلاثية الأبعاد، تندرج هذه التعديلات تحت علم التخلق (epigenetics)، والذي يشير إلى مجموعةٍ من الآليات للحفاظ على التعبير الجيني، وتشمل توسيم الدنا أو البروتينات المرتبطة به مثل الهستونات [3] بالعديد من الوسوم، منها إضافة جزيئات الميثيل والاستيل [4]. تُعدُّ التأثيرات فوق الجينية (علم التخلق) وبنية الجينوم ثلاثية الأبعاد عوامل رئيسية في التحكّم بالتعبير الجيني، ولها أدوار مهمة في الفعالية العصبية والتطوّر وبعض الأمراض. رُبطت هذه التعديلات مع الذاكرة انطلاقاً من أن آلياتٍ مماثلة تُستخدم لإثارة "ذاكرة" طويلة المدى وتخزينها على المستوى الخلوي، على سبيل المثال خلال عملية التمايز الخلوي [5] .

أظهرت دراسة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT أنه يُتحكّم بالذاكرة في خلايا انغرام بواسطة إعادة تشكيل البروتينات والدنا على مستوً واسع [6]. هذه التعديلات تسمح لجيناتٍ متخصصة بتصنيف الذاكرة بأن تصبح أكثر فعالية، في العادة تكون هذه التعديلات على عدة مراحل وتستمر أياماً عديدة.

بهدف دراسة التغيرات التي تحدث في خلايا انغرام مع مرور الوقت، استخدم الباحثون فئراناً معدلةً وراثياً يمكنهم من خلالهم تعقب بروتين مفلور وهو يُفرز عند تشكّل ذكرى معينة [7]. واتباعاً لنموذج بافلوف الكلاسيكي لتحريض ودراسة الذكريات المكروهة [8]، عُرِضت هذه الفئران لصدمةٍ كهربائيةٍ طفيفةٍ ورُبطت هذه الصدمة بأقفاص معينة، بهدف أن تتذكر الفئران الأقفاص التي تتعرض فيها للصدمة. من ثمَّ تتبّع الباحثون تشكّل الذاكرة لدى الفئران على فتراتٍ متتاليةٍ حتى بعد مرور خمسة أيام، وتتبع التغيرات التي تحدث على الجينوم خلال هذه الفترات.

لاحظ العلماء أن العديد من المناطق في الدنا -بعد تشكل الذكرى فوراً- قد تعرّضت إلى تغيّراتٍ في بنية الكروماتين، إذ تفككت البنية المعقدة وأصبح الدنا متاحاً أكثر لعمليات التعبير الجيني. اكتشف العلماء أن هذه المناطق تحتوي تسلسلاتٍ غير مرمزةٍ تدعى المعزازات enhancers [9] والتي تساعد على نسخ الجينات المسؤولة عن التعبير عن بروتينات المشابك العصبية، مما يشير إلى أن تكوين الذاكرة على نحوٍ كبيرٍ هو ظاهرةٌ مُعتَمدةٌ على المعزاز [6].

أما بعد مرور خمسة أيامٍ على تشكل الذكرى لدى الفئران، وجد العلماء أنه مع تعزيز الذكرى خلال تلك الأيام الخمسة، تغيّرت البنية ثلاثية الأبعاد للكروماتين المحيط بالمعزازات، مما جعلها أقرب إلى الجينات المستهدفة، مما يساهم في تسهيل التعبير عنها لدى استدعاء الذكرى. وهذا ما أُثبت لدى وضع الفئران في الأقفاص، في المكان الذي تعرضوا فيه للصدمات الكهربائية سابقاً، فقد ظهرت زيادةٌ في التعبير الجيني نتيجةً لتأثر المعزازات مع الجينات الهدف مراتٍ عديدة [6].

أظهرت هذه الدراسة كيفية تهيئة الكروماتين بواسطة العمليات فوق الجينية للحصول على وصولٍ للجينات المطلوبة لدى تكوين واستعادة ذكرى معينة. وذلك بإظهار المعزازات كونها مرحلة أولية، ومن ثمَّ ارتباط هذه المعزازات بالجينات الهدف [6]، وقد تبقى هذه الفعالية فترات طويلة. وهذا ما يهدف الباحثون لدراسته بوصفه خطوة لاحقة لفهم الآليات الجزيئية لتشكّل الذاكرة والذي قد يساعد على الوصول إلى علاج حالات فقدان الذاكرة وألزهايمر و الخرف لدى كبار السن.