الأمس أو قبل أمس انتحرت فتاة مصرية اسمها سارة حجازي، وثار جدل بيزنطي كالعادة في بلد لا يسمح بأي رأي إلا في التفاهات والدين -للأسف، وبمتابعة التعليقات المختلفة خلصت إلى بعض الاستنتاجات والملاحظات -غير ضرورة الهروب من هذه القرية الظالم أهلها- وددت أن أشاركها على هذا المجتمع الصغير، هذا المجتمع الحسوبي الذي ندعي فيه جميعًا المثالية والنخبوية من باب كشف الأقنعة ومحاسبة الذات ولا ضرر من جلد الذات قليلًا.
شخصيًا لا أعرف الكثير عن سارة حجازي، ولم أسمعها عنها قط قبل حادثة انتحارها،ولكن كعادتي فأي إنسان يموت أدعو له بالرحمة، الله أعلم بما يمر به الناس على هذا الكوكب اللعين، واتضحت الصورة أكثر فأكثر عندما عرفت أنها مثلية جنسيًا وملحدة وتعرضت لحوداثىبشعة في حياتها أثرت على حياتها ونفسيتها مما تدل عليه رسالتها الأخيرة التي تشتكي فيها قسوة هذا العالم بسبب هويتها الجنسية أغلب الأحوال وظلم واضح لا ينكره إلا الدواعش -وليسوا موضوعي اليوم، حتى هذه اللحظة لم أجد أي مشاكل، المشكلة بدأت عندما ترحم أصدقاؤها عليها -وهم مسلمون- وعلق الناس عليهم رافضين الترحم ومؤكدين عذابها الأبدي، وهنا يبدأ موضوعنا.
المؤمن الانفصامي
من مشكلات عصرنا هو أن الفكر الديني توقف منذ قرون، فلا تجديد للدين ومن يحاول هو كافر لعين،وكانت النتيجة أن العالم تغير من حولنا وما زلنا ندعو لقطع يد السرق، ومن لا يدعون لذلك منا لا يجتهدون بآراء فقهية تؤصل للنظام العدالي العصري الإنساني ولنظام أكثر عدالة في المستقبل البعيد، وها نحن ندعو ليل نهار أن يرزقنا الله بمجدد ما لا نحاول قتله، وهذا هنا أصل المشكلة فنحن نؤمن بما لا نفعله زلا يمكن تطبيقه في هذا العصر فينشأ عن هذا "اغتراب" للمؤمن يفصله عن المجتمع، أو ما يمكن ان نسميه نوعًا من النفاق، وما يسميه أصدقاؤنا الدواعش "تقية" أو لفظ ما لا أتذكره حاليًا، والاغتراب هو أهم مفهوم ومقياس للسلامة النفسية للشعوب، فكلما ازداد الاغتراب زاددت الأمراض النفسية لدى تلك الشعوب، وزاد التخلف بالطبع.
إذن ما موقع الاغتراب من الإعراب في هذه القضية؟ وما علاقته بالترحم؟ الصراحة مفهوم الاغتراب ضروري لفهم ظواهر مثل الإلحاد والتدين الشديد في عصرنا هذا، فالاغتراب الذي نعيشه والأفكار التي نؤمن بها ونطبق غيرها هما أزل سبب يدعو الشباب لترك الدين، ببساطة الدين ليس عصريا ولا يوافق العصر -على الأقل الدين الرسمي- بل يهاجم العصر والواقع، وعلى الجانب الآخر يزيد الاغتراب إذا أضفت إليه نظرية المؤامرة من إيمان الناس بأفكارهم ويزدادوا تعصبًا لها ورفضًا لأي فكر مختلف، ويتحول هذا الرفض تدريجيًا لكره شديد غير مبرر بغية الحفاظ على دين الله الصحيح.
إذن لدينا في المجتمع فصيل ضخم من المؤمنين الانفصاميين، لا تؤمن افعالهم على أقوالهم، يشاهدون المواقع الإباحية ويتابعون إنستا نجوم مسلسل elite -وما أدراكم بهذا المسلسل- وفي نفس الوقت يسبون الغرب ليل نهار، يهاجمون فنانًا لأنه رفع صورة لبناته فيها ما يعتبروه خدشًا للحياء والله وحده يعلم انهم ليل نهار يشاهدون أضعاف مضاعفة من هذا "الخدش"، ونتاج هذا الانفصام على الواقع هو مجتمع مستعد لدعم أي أيدلوجية دكتاتورية تحمي حمى الدين ورفض أي نوع من الديمقراطية التي قد تسمح بنشر الفجور والعري والفسق -حسب مفهومهم- والله يعلم أنهم أول المتضررين من هذه الديكتاتورية، ولكننا شعوب لا تهمها الدنيا بأي شكل من الأشكال، ومستعدون أن نعيش عبيدًا كي نفوز بالجنة، ونستغرب لمَ لا نتقدم ولمَ نعيش في هذا الفقر ولمَ الشرق الأوسط يعده العالم قفصًا تتصارع فيه الديكة، وتراهن كل دولة على الديك المنتصر.
ببساطة هذا الانفصام يؤدي لقبول التعذيب والتنكيل والديكتاتورية على أمل الحصول على الآخرة، وينتج ناتج آخر أهم وهو التدين المصلحجي كما أسميه، وهو أن الإيمان يتحول من موقف شعوري روحي عقلي من الكون والحياة إلى مصلحة، فالمؤمن الانفصامي كما قلنا يقبل التنكيل بالآخر وهو على علم بأن هذا قد يرتد عليه، فيشعر بأنه يقدم تضحيات من أجل الفوز بالآخرة، ويترك الدنيا بكل ملذاتها من أجل الآخرة، فينتج عن ذلك شعور بأن له على الله فضلا -معاذ الله- وأنه يستحيل بأي شكل من الأشكال أن يدخل الجنة ويفوز بالجائزة أي إنسان لم يقدم تضحياته تلك، فيعبد إله هواه، وهذا المحور الثاني لموضوع اليوم.
تدين المصلحة
لنفرض أننا وعدتك بوجبة دجاج مشوي عند أفضل مطعم في المدينة مقابل ألا تأكل أي نوع من اللحوم أو مهما كانت الأكلة التي تحبها، وعندما جاء الموعد ووفيت بوعدك وجدتني دعوت شخصًا آخر لنسمه "كريم" ليأكل معنا، تسألني إذا ما قام كريم بما قمت به فأقول لك لا، لقد فعلت كما أشاء وأنا صاحب "العزومة" فتستشيط غضبًا وتنهرني وتصفني بأنني لا أعرف شيئًا عن العدل، وعلى الأغلب ستضربني بالشوكة في عيني اليسرى وترحل.
تذكر شعورك في هذه اللحظة، هذه ببساطة نفسية المتظين في عصرنا هذا، فالمتدين اليوم يكاد يملي شروطه على الله، يعبد إلهًا من تخيله يخضع لأوامره وقيمه وقواعده، فالمتدين اليون يؤمن من أجل الجنة والجنة فقط، لأنه في الأساس ولد متدينًا ولم يفكر يومًا أن يبحث عن الله لأنه اعتاد أن يجده منذ ولادته، وتربى على ثقافة تؤكد له أن الهدف من الإيمان الجنة، وتحدد له كل شيئ بالجنة والنور، افعل كذا لتدخل الجنة ولا تفعل كذا فسيدخلك النار، وهذا النوع من التربية القائمة على الثواب والعقاب يصلح لفترة عمرية معينة من عمر الإنسان حيث أنه يعتمد على أقوى مشاعر الإنسان وهو الخوف والرغبة في مرحلة يكون الإنسان فيها في طور أقرب للحيوان -الأطفال أكثر شراسة من الأسود في نظري،ولكننا نكمل حياتنا كلها بهذا المنهج القاصر، فهذا المنهج لا يصح بعد الطفولة لتعقد الإنسان، وهذه ليست كلماتي بل هي كلمات قال بها الفلاسفة منذ عصر التنوير -وأعتمد أن أكتب عن كتاب تربية الجنس البشري والقليل من فلسفة التاريخ لاحقًا، ولكن هذا واقعنا اليوم.
وبهذه النفسية وهذا التدين من أجل المنفعة يواجه المؤمت مواقف مختلفة في عصر الإنترنت، والآن نعود لموضوعنا الأصلي، فأحد التعليقات بدأت بنقل بعض الكلام من أحد المواقع الوهابية التي تظهر لك عندما تكتب على جوجل "هل يدخل الملحدون الجنة" ثم تلا كلامه بما أراه فلتة من الفلتات كشف فيها عن مكمون نفسه، وأغلبنا في هذا العصر ندعي المثالية والموضوعية ونحرص أن نغلف آراءنا بغطاء -نعتقده- علمي، حيث قال: كيف يساوي الله بينها وبيننا؟!
يتولد عن ظاهرة "التدين المصلحجي" كره في المجتمع وسواد قلب صاحبه، كره غير مبرر إلا بأنك تريد الخير لك وحدك، هذه الأنانية غريزة من غرائز الإنسان التي يصعب أن يتخلى عنها الإنسان، بينما الفطرة السليمة تدعو الإنسان لحب الجميع، وكم هو صعب أن يتحلى الإنسان بفطرة سليمة في عصرنا هذا، فنحن أمام إنسان ببساطة لا يحب الخير لغيره وفي نفس الوقت يدعو الناس لدخول دين الحق مدعيًا أنه يريد لهم الخير!! ووالله هو لا يفعل ذلك إلا من أجل حسنات ما -إلا من رحم ربي- ثم يأتي نفس الشخص ويلعن الغرب الكافر الذي لا يفعل شيئًا إلا من أجل المصالح!
هذا الشخص إن قلت له أن رحمة الله وسعت كل شيء ولا يستبعد أن يدخل الله أي أحد الجنة، يستشهد لك بآية تتحدث عن الاستغفار، وهو جاهل لا يمكنه حتى نطق الآية بشكل سليم ولا أن يلحظ ما قد يلحظه أي أجنبي أن الاستغفار لا يساوي الرحمة! فإن دعوت لأحد بالرحمة نهرك وكتب لك مقالات عن كيف لا يصح أن تدع لأي إنسان بالرحمة، فليرحمنا الله جميعا.
والفطرة السليمة هي التي نراها عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما بفطرته استغفر لعمه الذي كان له عليه فضلا، ولكن رغم ذلك فرحمة الله أحاطت به حتى يقال أنه أقل الناس تعذيبًا، فطبيعي ألا يغفر ذنب من لم يتب وبعيدًا عن الإشكاليات الكثيرة في الآية فلم يتبين لي ان احدا سيدخل النار أم لا، ولكن في النهاية فليؤمن كل إنسان بما شاء وليكفر بما شاء ولا تزر وازرة وزر أخرى، وليحمينا الله من الشرك الحقيقي المنتشر بين الناس، أولئك الذين يعبدون المال وذوي السلطة والأموات، وملعون الإنترنت وملعونة هي قاتلة سقراط.
لا أكتب اليوم تنظيرًا لأفكار أودها أن تنتشر في المجتمع، بالتأكيد لدي أفكار ولكن لم تكتمل بعد لأنشرها،ولكن هذا المقال هو نكزة بسيطة للضمير الذي مات منتحرًا من قسوة هذا العالم.
الجملة التي أضعها في الوصف على صفحتي الشخصية هنا قالها أحدهم في هذا الموضوع، لو أن هذه الحرية فلتذهب الحرية للجحيم، أود كتابة موضوع عن تاريخ الجحيم يومًا ما.يبدو أن كتاباتي على الموقع تتحول تتدريجيًا لتعليق على الأحداث الجارية.. أعتقد أنني راض عن هذا.
التعليقات