الحضارة التي قلبت المفاهيم:
من مفاسد هذه الحضارة أنها أعادت تعريف الكلمات، فحوّلت الاحتيال إلى ذكاء، والانحلال إلى حرية، والرذيلة إلى فن، والاستغلال إلى معونة. إنها ليست مجرد أزمة أخلاقية، بل أزمة فلسفية عميقة، حيث اللغة نفسها أصبحت أداة تزوير، والمعاني تحولت إلى أقنعة تخفي القبح خلف ابتسامات مصطنعة.
الاحتيال كذكاء
في الأسواق المالية، يُسمى الاحتيال "ابتكارًا"، وفي السياسة يُسمى "دهاءً"، وفي الحياة اليومية يُسمى "شطارة". الحضارة الحديثة لا ترى في الاحتيال جريمة، بل مهارة. من يسرق بذكاء يصبح قدوة، ومن يخدع بمهارة يصبح نجمًا. وهكذا يتحول الذكاء من أداة للمعرفة إلى أداة للغش، ويصبح العقل خادمًا للطمع بدل أن يكون خادمًا للحقيقة.
الانحلال كحرية
الحرية في أصلها قيمة سامية، لكنها حين تُختزل في الانحلال تصبح مجرد شعار فارغ. الحضارة الحديثة تبيع الانحلال على أنه حرية شخصية، وكأن الحرية تعني أن يتحول الإنسان إلى عبد لشهواته. الحرية الحقيقية هي قدرة الإنسان على ضبط نفسه، لكن الحضارة جعلتها قدرة الإنسان على تدمير نفسه باسم "الاختيار". إنها كوميديا سوداء، حيث الانحلال يُسوّق كتحرر، بينما هو في الحقيقة عبودية جديدة.
الرذيلة كفن
الفن كان يومًا تعبيرًا عن الجمال والسمو، لكنه في هذه الحضارة أصبح أداة لتسويق الرذيلة. تُعرض القباحة على أنها "جرأة"، والانحطاط على أنه "إبداع"، والابتذال على أنه "كسر للتابوهات". الفن الذي كان يرفع الإنسان أصبح يجرّه إلى الأسفل، ليصفق الجمهور للرذيلة وكأنها لوحة عبقرية. إنها مأساة فلسفية، حيث الجمال يُستبدل بالقبح، ويُسمى القبح فنًا.
الاستغلال كمعونة
الاستغلال الاقتصادي يُسوّق اليوم على أنه "مساعدة"، حيث تُقدَّم القروض الربوية على أنها "دعم"، وتُعرض الشركات الاحتكارية على أنها "شركاء في التنمية". الحضارة الحديثة بارعة في تحويل الاستغلال إلى معونة، وكأنها تقول للفقير: "خذ هذه السلسلة الذهبية، لكنها مربوطة في عنقك." إنها فلسفة مقلوبة، حيث الظلم يُباع على أنه رحمة.
فلسفة صاخبة
هذه الحضارة لا تكتفي بالفساد، بل تمنحه أسماء براقة. إنها لا تكتفي بالانحطاط، بل تضعه في إطار فني. إنها لا تكتفي بالاستغلال، بل تلبسه ثوب المساعدة. إنها حضارة تعيش على تزوير المعاني، وتحوّل اللغة إلى سلاح ضد الحقيقة.
إنها حضارة تصفق للغشاش، وتحتفل بالمنحل، وتكرّم المستغل، وتمنح الجوائز للرذيلة. الحضارة التي قلبت المفاهيم ليست مجرد حضارة مريضة، بل حضارة خطيرة، لأنها تجعل القبح يبدو جميلًا، وتجعل الشر يبدو خيرًا، وتجعل الضحية تشكر جلادها.
مقولة مصطفى السباعي ليست مجرد نقد أخلاقي، بل صرخة فلسفية ضد حضارة فقدت البوصلة. الحضارة التي تسمي الاحتيال ذكاءً، والانحلال حريةً، والرذيلة فنًا، والاستغلال معونةً، هي حضارة تعيش على قلب الحقائق. والنتيجة: عالم صاخب بالزيف، حيث الحقيقة تُدفن تحت ركام الكلمات المزيفة، والإنسان يصفق لانحطاطه وهو يظن أنه يرقص على أنغام الحرية.
التعليقات