إذا كنت قد قضيت وقتًا كافيًا في دهاليز الويب العربي، فلا بد أنك مررت بتلك اللحظة العجيبة عندما تتساءل: هل نحن في عام 2025 أم أننا لا نزال عالقين في نسخة متأخرة من 2005؟ هذا المكان حيث يمكن أن تجد مقالات عبقرية بجوار محتوى يجعلك تفقد الأمل في الإنسانية، حيث تظهر مشاريع طموحة فجأة ثم تختفي كما لو لم تكن موجودة، وحيث يتحول النقاش إلى حلبة ملاكمة رقمية أسرع مما يمكنك أن تقول: "يا جماعة، خلونا نتحاور بهدوء!"

الويب العربي ليس مجرد شبكة مواقع وصفحات، بل هو صورة مكثفة لحالتنا الثقافية والاجتماعية، بكل تناقضاتها، عبقريتها، وسحرها الفوضوي. هل هناك أمل في تغييره؟ ربما، لكن دعونا أولًا نستكشف هذه الغابة الرقمية بحذر.

1️⃣ التنفيذ هو الملك، والبقية مجرد ضجيج

كلنا سمعنا هذا السيناريو من قبل:

"تخيل لو عندنا موقع مثل Medium لكن عربي!"
"ما رأيك في منصة لتعليم البرمجة للأطفال مجانًا؟"
"يا رجل، يجب أن يكون لدينا شبكة اجتماعية تنافس فيسبوك!"

ثم ماذا؟ لا شيء! الفكرة تبقى مجرد كلام، ثم تُدفن في مقبرة الأحلام الرقمية. المشكلة ليست في نقص الأفكار، بل في غياب التنفيذ الفعلي.

لكن المعضلة الأكبر ليست فقط في من لا ينفذ، بل في من ينفذ بشكل عشوائي. المستثمر العربي، بدلًا من دعم المشاريع الجيدة، يقرر إطلاق موقع إخباري جديد لأن "السوق بحاجة إلى منصة إعلامية مستقلة"، ثم بعد عام يتحول الموقع إلى نسخة أخرى من المواقع الميتة رقميًا.

في المقابل، هناك من ينجح رغم كل شيء. السوريون مثلًا لديهم قدرة تنفيذية مدهشة—يعرفون كيف يحولون الأفكار إلى مشاريع حقيقية، لكنهم يعانون من غياب الدعم. في المقابل، المستثمرون العرب يحبون البداية الجديدة أكثر من الاستمرارية. كأن المشكلة دائمًا في "البدء من الصفر" وليس في "تطوير المشاريع القائمة".

2️⃣ صناعة المحتوى: من يملك الساحة؟

لكل بلد عربي بصمته الخاصة على الويب، وبعضهم أكثر تأثيرًا من غيرهم. لنلقِ نظرة على الخريطة الرقمية:

  • السوريون: محترفو التنفيذ، يبرعون في تحويل الأفكار إلى مشاريع، لكن التمويل يخذلهم.
  • المصريون: يسيطرون على كمية ضخمة من المحتوى، لكن الكثير منه مرتبط بإعلام غير مستقل.
  • المغاربة: لديهم هوس جميل بالتدوين التقني، لدرجة أن المغرب أصبح مصنعًا للمدونات التقنية.
  • الأردنيون: لديهم بيئة داعمة للشركات الناشئة، مما يجعلهم روادًا في المشاريع الرقمية.
  • الجزائريون: ملوك الصياغة الاحترافية، لكن حضورهم في المشاريع الكبرى ضعيف نسبيًا.

لكن بشكل عام، المشكلة ليست في إنتاج المحتوى بقدر ما هي في جودة هذا المحتوى. الويب العربي يعج بالمقالات المكررة، الفيديوهات السطحية، والترجمات المشوهة.

3️⃣ التدوين النسائي: إبداع في مواجهة العبث

إذا كنتِ مدونة عربية، فأنتِ أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تنهال عليكِ موجات الإعجاب المبالغ فيه، أو أن تتحولي إلى هدف سهل للتعليقات السامة. في كلتا الحالتين، الإنترنت لا يتعامل معكِ ككاتبة، بل كـ"ظاهرة تحتاج إلى تحليل". ومع ذلك، المدونات العربيات هنّ من أكثر الفئات التزامًا وجودة في الكتابة، ويواصلن الإبداع رغم العوائق الثقافية والاجتماعية.

4️⃣ الاستثمار في المحتوى؟ حلم يقظة!

لماذا لا نرى منصات عربية ضخمة تدعم المحتوى الجاد؟ لأن المستثمر العربي يفضل ضخّ الأموال في مشاريع إعلامية مؤقتة بدلًا من بناء شيء مستدام. النتيجة؟ مواقع تموت قبل أن يسمع بها أحد، ومدونون موهوبون يهربون إلى المحتوى الإنجليزي بحثًا عن جمهور أكثر نضجًا.

5️⃣ استقطاب فكري: الإنترنت ليس مكانًا لضعاف القلوب

الحياد في الويب العربي؟ نكتة جيدة. أي كاتب يتناول أي موضوع، حتى لو كان عن الطقس، سيجد نفسه متهمًا بالانحياز لطرف ما. الجمهور العربي لا يتسامح مع الرأي المخالف، مما يجعل النقاش مستحيلًا، ويؤدي إلى قتل أي محاولة لحوار عقلاني.

6️⃣ التعليقات: بين "أنت أعظم كاتب في الكون" و"اذهب واعتزل الحياة!"

إذا كنت كاتبًا عربيًا، فتعليقات جمهورك غالبًا ما تكون على أحد الشكلين:

  1. مديح أسطوري: "يا إلهي، أنت نجيب محفوظ القادم!"
  2. انتقاد مدمر: "هذا أسوأ مقال قرأته في حياتي!"

لا يوجد شيء اسمه "نقد موضوعي". الإنترنت العربي يعاني من ثقافة الأبيض والأسود، حيث إما أن تكون عبقريًا أو كارثة. وهذا يجعل تطوير المحتوى أمرًا صعبًا، لأن التفاعل المبني على نقد حقيقي شبه منعدم.

7️⃣ أزمة الجودة: المحتوى التافه ينتصر!

لماذا يهيمن المحتوى السطحي؟ لأن الجمهور يستهلكه بجنون. المنصات التي تقدم محتوى ثقافيًا أو علميًا جادًا تكافح من أجل البقاء، بينما فيديوهات "حقائق مذهلة عن برجك!" تحصد ملايين المشاهدات. النتيجة؟ المبدعون الحقيقيون إما يغيرون مسارهم، أو يغادرون الويب العربي تمامًا.

8️⃣ الترجمة: بين الإضافة والتشويه

نحتاج إلى الترجمة، ولكننا بحاجة أكبر إلى ترجمة جيدة. الكثير من المحتوى المترجم في الويب العربي يتم تحريفه أو اختصاره بطريقة تجعل المعلومات غير دقيقة أو حتى مضللة. والنتيجة؟ جيل من القراء الذين يظنون أنهم يطلعون على العلم، بينما هم يستهلكون نسخة مشوهة منه.

إذن ... هل هناك أمل؟

رغم كل الفوضى، لا يزال هناك ضوء في نهاية النفق. هناك مواهب عربية مدهشة، ومشاريع رائعة تظهر بين الحين والآخر. المشكلة ليست في غياب الإبداع، بل في غياب الدعم والاستثمار الجاد. إذا تغيرت العقلية، فقد نشهد نهضة رقمية حقيقية. لكن حتى يحدث ذلك، سنظل عالقين في هذا المزيج الغريب من العبقرية والفوضى، حيث ينجح البعض رغم كل الظروف، ويفشل الآخرون لأن الفكرة وحدها لا تكفي.

ويبقى السؤال: متى سنتوقف عن إعادة اختراع العجلة، ونبدأ في قيادتها؟