بيئة السوشيال ميديا اليوم أصبحت حافلة بظواهر تؤثر على المنطق والتفكير النقدي عند العديد من المستخدمين. في هذه البيئة، يواجه الناس تدفقًا هائلًا من المعلومات السريعة، المتغيرة، وغالبًا غير الموثوقة، مما يعزز أساليب التفكير السطحي والعاطفي ويؤثر على المنطق في صنع القرارات.

العوامل التي تساهم في إضعاف المنطق:

1. الانتقائية في المعلومات (فقاعة الترشيح):

تعتمد منصات السوشيال ميديا على الخوارزميات التي تقترح للمستخدمين المحتوى الأكثر ملاءمة لرغباتهم السابقة، مما يجعلهم محصورين داخل ما يُعرف بـ"فقاعة الترشيح". هذه الفقاعة تجعل الناس يتعرضون باستمرار لنفس النوع من الأفكار التي توافق معتقداتهم، مما يضعف قدرتهم على التفكير النقدي أو رؤية زوايا جديدة، بل يمكن أن يجعلهم متأكدين بشكل خاطئ أن رؤيتهم للعالم هي الوحيدة الصحيحة.

2. التلاعب بالمشاعر:

تستفيد معظم منصات التواصل من المحتوى الذي يثير مشاعر قوية، كالغضب أو الخوف أو السعادة الفائقة. فالمحتوى الذي يحمل عناصر الإثارة العاطفية يحصل على تفاعل أكبر، مما يدفع الناس إلى تصديق ما يرونه دون التفكير في صحته أو في المعلومة نفسها. هذا التأثير يجعل العديد من الناس يعتمدون على "الانطباع الأول" عوضًا عن التقييم العقلي المتزن.

3. الاستقطاب:

السوشيال ميديا تجعل من السهل للغاية تجميع الناس حول وجهات نظر محددة وجعلهم "مجموعات منغلقة". هذه المجموعات تزداد تعصبًا لرأيها، وتعتبر أي رأي مخالف هو "تهديد". هذا النوع من الاستقطاب يبعد الناس عن الحوار العقلاني، ويشجعهم على التفكير بمنطق "نحن ضدهم"، مما يفسد قدرتهم على التفكير المنطقي أو رؤية التنوع في الآراء كقيمة.

4. ثقافة السطحية والتفاعل اللحظي:

مع تزايد شعبية المحتويات القصيرة كالـ"ستوريز" والفيديوهات السريعة، يتم تغليب السرعة على العمق، مما يشجع على قراءة العناوين السطحية دون الاطلاع على المحتوى الكامل. النتيجة هي أن الكثيرين يتخذون قرارات أو يبنون آراء بناءً على معلومات مجتزأة أو ناقصة، وهو ما يضعف قدرتهم على الوصول إلى استنتاجات منطقية أو متزنة.

5. تراجع قيمة التوثيق والبحث:

في البيئة التقليدية للمعلومات كان الناس أكثر اعتمادًا على مصادر موثوقة، أما الآن فقد أصبحت السوشيال ميديا مصدرًا أوليًا للمعلومات لكثير من المستخدمين، حتى لو كانت غير موثقة أو موثوقة. ويؤدي ذلك إلى انتشار واسع للشائعات والمعلومات غير الدقيقة، ويشجع الناس على تفضيل الانطباعات والأخبار المضللة على التفكير النقدي والتحقق من المصادر.

6. التأكيدات المتبادلة (إعادة التأكيد):

أحد أخطر مظاهر السوشيال ميديا هو الدور الذي تلعبه في "إعادة التأكيد"، حيث يتبادل الأصدقاء والمتابعون نفس الأفكار والرؤى، مما يعزز ثقة الفرد بصحة تلك الأفكار، حتى وإن كانت غير دقيقة. وهكذا تتلاشى مساحة التفاعل العقلاني وتتحول إلى "غرفة صدى" للأفكار، مما يعزز ثقافة الانغلاق الذهني.

باختصار، السوشيال ميديا أسهمت في تسريع التواصل ونشر الأفكار، لكنها في الوقت نفسه أوجدت بيئة مشحونة بالعواطف، وقلة التحقق، والاستقطاب، وكلها عوامل تساهم في إفساد منطق الناس وتقليص قدرتهم على التفكير بموضوعية وعمق.

===========================================================

*** آلية عمل بيئة السوشيال ميديا:

خوارزميات منصات السوشيال ميديا مصممة بطريقة ذكية تجعلها قادرة على "التعرف" على ما يهتم به كل مستخدم وتقديم محتوى يجذبه بشكل متواصل، لكن الهدف الأساسي وراء هذه الخوارزميات هو زيادة التفاعل؛ فكلما زاد التفاعل، زادت مدة بقاء المستخدمين على المنصة، مما يعني أرباحًا أكبر من الإعلانات. فيما يلي تفصيل لمنطق عمل هذه الخوارزميات وكيف يمكن أن تؤثر سلبًا على التفكير المنطقي لدى المستخدمين:

1. آلية العمل القائمة على "التفاعل" وليس "الجودة"

- خوارزميات السوشيال ميديا تعتمد بشكل كبير على مدى تفاعل المستخدمين مع المحتوى (الإعجابات، التعليقات، المشاركات)، وليس على جودته أو صحته. فالمحتوى المثير، الذي يسبب ردود فعل عاطفية قوية، مثل الغضب أو السعادة أو التعجب، يُعطى أولوية أكبر.

- هذه الآلية تعني أن الخوارزميات تعزز من انتشار المحتوى الذي يجذب الأنظار بغض النظر عن مدى دقته أو قيمته. عندما يتعرض المستخدمون لمحتوى مثير عاطفيًا فقط، فهم يفقدون تدريجيًا الاهتمام بالمحتوى التحليلي أو المعلوماتي، مما يؤدي إلى ميل عام نحو التفكير السطحي والابتعاد عن المنطق التحليلي.

2. غرف الصدى (Echo Chambers) وتعزيز الانحيازات الشخصية

- تقدم الخوارزميات للمستخدمين محتوى شبيهًا بما شاهدوه أو تفاعلوا معه سابقًا، مما يخلق "غرف صدى" تعزز الأفكار المتشابهة وتمنع التعرض للأفكار المختلفة. وهكذا، إذا كان لدى الشخص قناعة أو رأي معين، فإن الخوارزميات ستغمره بالمحتوى الذي يدعم رأيه، متجنبة المحتوى الذي قد يعارضه.

- هذا يزيد من قوة الانحياز التأكيدي (confirmation bias)، مما يضعف من قدرة الناس على التفكير النقدي أو تغيير آراءهم بناءً على معلومات جديدة. كما أن الأشخاص يصبحون أكثر انغلاقًا فكريًا، مما يُفسد قدرتهم على التفكير المنطقي الذي يحتاج للانفتاح على زوايا متعددة للموضوع.

3. التغذية بالمعلومات الزائفة والتلاعب بالحقيقة

- بسبب خوارزميات التفاعل، ينتشر المحتوى المثير للجدل والشائعات بشكل أسرع من المحتوى الدقيق، لأن المعلومات الكاذبة أو العناوين المثيرة تكون أكثر جاذبية للناس. وتزيد الخوارزميات من انتشار مثل هذه المعلومات بسبب كثافة التفاعل حولها.

- هذه الظاهرة تدفع المستخدمين إلى تشكيل آرائهم بناءً على معلومات غير صحيحة، مما يفسد المنطق البشري الصحيح، ويقلل من قيمة الحقائق، حيث يصبح من الصعب التمييز بين المعلومات الصحيحة والخاطئة، ويزداد الميل لتصديق كل ما يتكرر على المنصة.

4. التكرار المستمر للمحتوى وأثره على العقل البشري

- واحدة من استراتيجيات الخوارزميات هي "الإغراق بالمحتوى"، حيث يتم عرض نفس الأفكار أو المواضيع بشكل متكرر أمام المستخدمين؛ وهذا يخلق ما يُعرف بالتأثير "المعرَّف بالوجود" (Availability Bias)، حيث يعتقد الإنسان أن ما يتعرض له كثيرًا هو "الحقيقة" أو "الأكثر أهمية".

- ومع تكرار التعرض للمعلومات أو الأفكار نفسها، يبدأ العقل في قبولها كحقائق، مما يضعف قدرة الإنسان على التحقق منها أو التفكير بعمق فيها، ويميل نحو القبول السطحي بدلاً من النقد العقلي.

5. الضغط الاجتماعي وخوف الخروج عن الجماعة

- تدفع الخوارزميات المستخدمين نحو التفاعل مع ما يراه ويشاركه أصدقاؤهم أو دوائرهم الاجتماعية، مما يخلق بيئة ذات ضغط اجتماعي غير مباشر. وهكذا، يصبح الأشخاص أكثر ترددًا في التعبير عن آراء مخالفة للأفكار السائدة على المنصة، مما يعزز التفكير الجماعي ويقوض التفكير الفردي النقدي.

- هذا يفسد المنطق البشري لأنه يدفع الأفراد للالتزام بآراء المجموعة خوفًا من العزلة أو النقد، مما يقيد قدرتهم على التفكير بحرية.

6. التأثير العاطفي المكثف وقلة التوازن

- تهتم خوارزميات السوشيال ميديا بالمحتوى الذي يحفز المشاعر، ويؤدي هذا إلى استنزاف عاطفي للمستخدمين يجعلهم أكثر تأثرًا وأقل عقلانية. التعرض المتكرر للمنشورات المثيرة للمشاعر بشكل مكثف قد يجعل الناس أسرى للعواطف، ويُضعف قدرتهم على التفكير بهدوء ومنطقية.

* كيف يُفسد هذا المنطق البشري؟

عندما يصبح المستخدم محاطًا بمعلومات منتقاة، متحيزة، مليئة بالإثارة العاطفية، وقليلة التحقق، فإنه يُصبح تدريجيًا أقل اعتمادًا على التفكير النقدي وأقل تمييزًا بين الحقائق والانحيازات. وفي النهاية، يفقد الكثير من الناس قدرتهم على التحليل الموضوعي للأمور، ويصبحون أكثر عرضة للتأثر السطحي، مما يفسد المنطق البشري في معالجتهم للمعلومات وتحليلهم للمواقف والأحداث من حولهم.