غالبًا ما يصبح المجتمع عدو نفسه، ليس بفعل قوى خارجية، بل بفعل آلياته الداخلية في نقل الوعي وتربية أفراده. هذه الآليات تولّد تكرارًا مستمرًا لنمط الحياة والأفكار، دون إدراك أو مراجعة، مما يحول المجتمع تدريجيًا إلى دائرة مغلقة تحمي الجمود وتقاوم التغيير.
الفكرة الرمزية للنبوة
تمثل البذرة الكبرى للوعي الفردي في مواجهة هذا الجمود، فهي تعكس الفرد الذي يأتي بأفكار مخالفة لمجتمعه، يرى ما لا يراه المجتمع، ويملك من المنطق والبرهان ما يثبت صحة أفكاره. غالبًا ما يواجه هذا الفرد رفضًا جماعيًا، لأنه يتحدى الاتجاه الأحادي والتقليد الأعمى، لكنه يظل في مقام النبي لقومه، مستنهضًا للوعي ومكسرًا للجمود الثقافي والفكري.
النبي إبراهيم عليه السلام كمثال
يظهر هذا التوجه الرمزي بوضوح في النبي إبراهيم عليه السلام، الذي رفض الفكر الذي اعتاد عليه قومه. بدأ إبراهيم في التساؤل عن ربه، متنقلًا من عبادة التماثيل الجمادية إلى مراقبة القمر ثم الشمس، وأخيرًا اتجه إلى الله ليطلب الهداية. هذا المسار يوضح رحلة العقل والوعي من المظاهر المحسوسة إلى الحقيقة المطلقة، ويؤكد أن بذرة الوعي لا تتعلق بالإله فقط، بل بقدرة الإنسان على التمييز والاستنارة.
تتجلى الرمزية كذلك في الأصنام التي ذكرها إبراهيم، حيث قال لقومه:
"ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وهي لا تنفعكم ولا تضرّكم"،
لتشير إلى الأشياء أو السلوكيات أو الأفكار التي لا منطق لها ولا جدوى، ومع ذلك يتمسك بها المجتمع بلا وعي.
تنميط المجتمع
عندما يولد الطفل بلا وعي، يكتسب وعيه أولًا من أسرته، ثم من المجتمع المحيط به، فيصبح من الطبيعي أن يكون المجتمع ذو اتجاه واحد، يتم من خلاله تنميط البشر آليًا وفقًا لما اعتاد عليه المجتمع.
تزداد هذه الظاهرة وضوحًا في الدول غير الديمقراطية، حيث يعتمد النظام على اتجاه واحد في الفكر والإدارة، مع تسطيح التعليم، قمع الفكر المختلف، وتحريم مهارة النقد. هذا النمط يولد ثباتًا اجتماعيًا طويل الأمد، يجعل المجتمع يتطبع مع الوضع القائم، ويقبل ما لا يقتنع به، فيكذب على نفسه ظنًا بأن "الجميع على صواب، وأنا المخطئ الوحيد".
الآيات التى توضح البرمجة الإجتماعية
هنا تأتي الآية القرآنية لتؤكد هذا الاتجاه المبرمج، حيث يقول من يدعوهم النبى لعبادة الله الواحد الأحد :
"هذا ما وجدنا عليه آباءنا"،
ويرد الله على هذا المنطق بقوله:
"أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون".
الجمود والهلاك
إن التقليد الأعمى والانسياق مع المجتمع يؤدي إلى الجمود والثبات، ويغيب التجديد والفكر والنقد والتطور. وعندما يستخدم المجتمع شيء واحد لفترات طويلة دون تجديد أو تطوير، فإنه يتهالك مع مرور الوقت، ويصبح غير صالح للاستخدام، ويصل المجتمع إلى حالة من الهلاك دون أن يعرف السبب الحقيقي.
المجتمع كآلة
نتيجة هذا النمط الأحادي، يتحول المجتمع إلى آلة تصنع بشرًا متطابقين، محرومًا من الاستفادة من الأفراد الموهوبين وذوي البصيرة الذين لديهم القدرة الحقيقية على التغيير والتطوير والتقدم.
المستفيد من استمرار هذه الظاهرة هو من يمتلك القدرة على التأثير والتغيير، لكنه يختار الحفاظ على الوضع الراهن، مستفيدًا من الجمود والثبات الذي يهيمن على المجتمع، وبالتالي يضمن استمرار سيطرته على الاتجاه الأحادي للأفكار والسلوكيات.
التعليقات