رائحة ذرات حبّات رمال شاطئ عكّا تُرسل إليّ سلاماً من أرض السلام ، وأشجار زيتون جنين تُعاتبني لائمة ثائرة ، لِمَ لَمْ يقم أحد بزراعة بذور ثمارها التي حُصدت في أواخر تشرين من العام الماضي . أما أسماك البحر الذي يحيط بيافا وحيفا فقد هاجرت مُبتعدة ،بعد أن أصبح ركّاب السفن والقوارب والبواخر غالبيتهم من اليهود ، وقلّة قليلة من العرب ، لا لا بل من العربيّ الأصيل . لا أقصد الإهانة ، بل إنني أتعمّدها وأكتبها وأكررها .
" كانت تسمّى فلسطين .. صارت تُسمّى فلسطين " .
حقيقة واحدة لا يمكن تغييرها ولا التلاعب بها ، أيمكن أن يتبادر في أذهانكم أنني بمثابة فلسطينية هائمة في أحلام اليقظة وسنوات ما قبل النكبة ما زالت تُراودني في حلمي ليتعطّش إليها حبر قلمي وتُنعشها سطور أوراقي !
تلك سنوات الحياة ما قبل ال 1948 ، سنين الوطن لأبي وأمي وجدّي وجدتي ، أولئك من هاجروا من مكان إلى مكان وعلى ظهورهم صُرّة الملابس والمقتنيات التي ظنّوا أنها ستكفيهم بضع أيامٍ وليالٍ متتالية ، وستنتهي بعد ذلك ، لتُقذف تلك الصُرّة في جوف المِغسلة في قعر الدّار ، دار جدّي في مدينته في منتصف اللّد .
لكن الحقيقة التالية قد لدغتهم من ظهورهم ، وكانت الأحداث التي توالت أخبث من المُتوقع ؛
من مدينة إلى مدينة ، ومن قرية إلى قرية ، ومن بلد إلى بلد ، ثم انتهى بهم المطاف إلى خيمة في مخيم اللاجئين .
وبعد رحلة المعاناة تلك ، وفي منتصف الخيمة ، كان نهارا باردا في منتصف كانون الثاني ، كان يقف أحد اللاجئين ، رجل في الثلاثينيّات ، يرتدي سروالا خفيفا ، وكنزة صوفية قد اهترأت خيوطها الصوفية ، فلم يعد الدفء مجدياً بارتدائها ، يقف هذا الرجل ، يُدندن :
العيادة راحت ، والمرا راحت وطفلي محمد راح ، وازا رجعت الدار ، شو بضل من أهل الدار غير العفش والبسط وأدوات الطبخ وموقد النار ... !
ومن هذه الخيمة يخرج بعد سنوات جماعات جماعات ، ومن بينهم ذلك الرجل وأشباه قصته كثيرون ، خرجوا ليقطنوا في المدن وليعمّروا لأنفسهم من المساحات ، ليكون لهم وطناً آخر غير ذاك الوطن المُغتصب ، وطناً عربيّا أصيلا كريما بجانب أخوانهم، وطناً ثانياً جميلا كجمال فلسطين .
وبعد مرور السنوات ، وتعاقب الأجيال ، وفي قلب كل جيل اخلاص وولاء ، وقضية الوطن قد ارتبطت بهم ، طفل صغير في السابعة ، يُسأل من أين أنت ، فيُجيب أنا من فلسطين ، هذه تغذية العقول التي تتم بين أطفالنا ، تغذية عقولهم بكل من رجال تحت الشمس وعن الرجال والبنادق ، عائد إلى حيفا وأرض البرقال الحزين ، من الكتابات التي أفنى بها غسان كنفاني شبابه في تسطيرها ، وإلا كيف ستبسِط هذه القضية فِراشها في عقولهم وكيف ستشُغل أحداثها بالهم ، وكيف ستتذوّق ألسنتهم مُرّ أوجاع أجدادهم . فبعد كل هذا ، سيُمسي الشاب منهم بعد سنوات ، صارماً ،قويّاً ، مُتجّهاً بكل عزم إلى هدفه ، وهو الدفاع عن وطنه التي وقع بين أيادٍ ملوثة . ففي مضى كانت بيد عدوّ واحد ، هنا ولا بدّ أن نقول أن المهمة أصبحت تطلب أضعاف الجهد الذي كان يُبذل فيما مضى بنسبة أقلّ من الآن . فالعدوّ أصبح اثنين ، الأول وهو معروف منذ الثمانية والأربعين ، والثاني المُستجدّ هو ذاك العربيّ الجاهل الذي جلس على طاولة التوقيع (كالأطرش بالزفّة ).
تصلُنا آخر الأخبار بقيام دولة عربية بتطبيع علاقاتهم ، هذا التطبيع الذي تمّ أمام أنظارنا ، مُحتجّين أنتم بآراء ساذجة لا يُمكن أن يسترجلها طفلا في العاشرة .. بئساً لكم ، العار يلحقكم لا يلحقنا ، يَمسّكم لا يَمسّنا ، يُهينكم لا يُهيننا ، أما تطبيعكم قد تم مع ذلك المُتشرّد البائس ،الذي لم يجد من يسقبله ، فأراد أن يدخل عنوة في قعر الدّار ، ودخل ، ومارس هذا العمل بصفته هو ؛ فالدّار التي استُوطنت ودخل مُغتصبها ، قد ضجرت من ساكنيها ، ضاقت جدرانها ، فبَكتْ ، بَهُتَ بُستانها واصفرّت أوراقها ، فسَقطتْ . فما بالكم بما حدث لأهل تلك الدّار !
هذه هي فلسطين ، بصوتها العربيّ الأصيل المسموع ، ترابها ، سمائها ، أشجارها ، وهوائها وبحرها تُردد مُجتمعة ، وصدى صوتها يرتدّ في كل مكان ، وتقول لكم أنها فلسطينيّة العنوان والمحتوى ، وأنا أعرف كل عناصرها حقّ المعرفة ، أعرف بلدي ، أعرف مدينتي ، أعرف قدسي ، أعرف بحري وشجرتي وبيتي ، أعرفهم حقّ المعرفة . ويعرفها طفل صغير وشاب في مطلع العشرين ، يعرفها الحفيد والولد والكبير والكهل والشيخ ، وسيعرفها كل جيل .
الذي أحدثمتوه لم يُغيّر في الحقيقة شيئا ، فهي كما قالها محمود درويش :
" كانت تُسمّى فلسطين ..صارت تُسمّى فلسطين " .