أحد النظريات التي تتناول القرآن تتحدث عن الإستعمال الخاص بالقرآن لبعض الألفاظ والتراكيب اللغوية، فينقل معناها الشائع لمعنى آخر، والمعنى المشهور للمعنى النادر الإستعمال، بل إلى معاني لم تستعمل من قبل لها، وهو موضوع يطول شرحه ويستحق فرد موضوع خاص به أول ما تتاح لي الفرصة، أما موضوع اليوم صغير وبسيط يدور حول المصافحة بين الرجال والنساء في الإسلام.

أولًا أحب التأكيد على إحترامي للآخر في المجتمع مهما اختلف معي، وبالتالي أرى التصرف الصحيح لأي رجل عاقل في مجتمعاتنا ألا يبادر بمد يده للسلام على النساء عامة في وقتنا هذا، فإن ظهرت منها بادرة بادر وإن لم تظهر حفظ ماء وجهه وأبقى يده إلى جنبه، مهما كان يعتقد أن أفكارها هذه من الدين أم لا، فليس من حقه فرض نفسه على الآخرين أو وضعهم في حالة لا يشعرون بالراحة فيها.

الأنعام آية49 وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ

الأعراف آية ٢٠١ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ

الواقعة آية 79 لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ

المعارج آية 21 وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا

المعارج آية20 إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا

يأتي أغلب الإستخدام القرآني للفظ المس على غير المعتاد بمعنى الإصابة لا معنى اللمس إلا في آية واحدة، وعادة ما يأتي مقترنًا بالشر والعذاب والضر والشيطان الإ في آية واحدة ارتبط فيها بالخير، ويرى بعض البلاغيين أن لفظة المس أدت أفضل معنى في الآيات فعندما تأتي مقترنة بما لا يحبه الإنسان توحي بأن القليل منه -الإصابة بضرر مثلًا- كاف لتفعيل الأثر بعدها سواء كان الجزع أو مجرد لمس الكتاب، أو مجرد مس بسيط من الشيطان يبصروا، أما الآية الأولى فجاء معنى المس فيها مخالفًا وتجسيديًا أكثر، فكأنه إنسان يعذبهم بهم كما يشاء -كما في الكشاف للزمخشري، وربما يكون وقع هذا الكلام أجمل على آذان من يرون الخصوصية اللغوية لكل سورة من سور القرآن.

من لسان العرب

وأمسسته الشيء فمسه . والمسيس : المس... والمس : مسك الشيء بيدك . قال الله تعالى : ( وإن طلقتموهن من قبل أن تماسوهن ) ، وقرئ : من قبل أن تمسوهن ، قال أحمد بن يحيى : اختار بعضهم ما لم تمسوهن ، وقال : لأنا وجدنا هذا الحرف في غير موضع من الكتاب بغير ألف : يمسسني بشر ، فكل شيء من هذا الكتاب ، فهو فعل الرجل في باب الغشيان . وفي حديث فتح خيبر : فمسه بعذاب أي عاقبه . وفي حديث أبي قتادة والميضأة : فأتيته بها فقال : مسوا منها أي خذوا منها الماء وتوضؤوا . ويقال : مسست الشيء أمسه مسا : إذا* لمسته بيدك* ، ثم استعير للأخذ والضرب لأنهما باليد ، واستعير للجماع لأنه لمس ، وللجنون كأن الجن مسته ، يقال : به مس من جنون . وقوله تعالى : ولم يمسسني بشر أي لم يمسسني على جهة تزوج ، ولم أك بغيا أي ولا قربت على غير حد التزوج . وماس الشيء الشيء مماسة ومساسا : لقيه بذاته . وتماس الجرمان : مس أحدهما الآخر... ومس المرأة وماسها : أتاها. ولا مساس أي لا تمسني . ولا مساس أي لا مماسة ، وقد قرئ بهما . وروي عن الفراء : إنه لحسن المس . والمسيس : جماع الرجل المرأة... ويكنى بالمساس عن الجماع . والمماسة : كناية عن المباضعة ، وكذلك التماس ، قال تعالى : من قبل أن يتماسا ، وفي الحديث : فأصبت منها ما دون أن أمسها ، يريد أنه لم يجامعها . وفي حديث أم زرع : زوجي المس مس أرنب ، وصفته بلين الجانب وحسن الخلق . قال الليث : لا مساس : لا مماسة أي لا يمس بعضنا بعضا

أعتقد أن الإقتباس السابق كافي للتأكيد أن المس يمكن أن يأتي بمعنى الجماع، بل الأغلب أنه كذلك إذما أقترن بالمرأة، وهذا المعنى هو المنتشر في هذا التركيب على وقت الرسول، بل هو الإستعمال القرآني عندما تقترن الكلمة بالمؤنث، والاستعمال اليومي عرف معاني أخرى للكلمة كالإصابة وكالأخذ والضرب.

عن معقل بن يسار يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لئن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له " .

الحديث السابق هو أقوى الأدلة على "حرمانية" مصافحة الرجل للأجنبية، وباقي الأدلة غير مباشرة وفي النقاشات يرد عليها بما هو مثلها، مثل أحاديث أم حرام والجارية التي تأخذ الرسول من يده إلى حيث حاجتها، لذلك سأتجنبها عمومًا وسنركز على الحديث السابق.

التالي تخريج للحديث من موقع أهل الحديث:

وهو من طريق شداد بن سعيد الراسبي عن يزيد بن عبدالله بن الشخير عن معقل بن يسار، وشداد بن سعيد أنتقده جمع من الحفاظ فقال عنه ابن حبان: ربما اخطأ وضعفه عبدالصمد بن عبدالوارث حسبما نقل البخاري، ولم يروي عنه البخاري ولو لمرة ونقل عنه مسلم حديثًا واحدًا لا أعتقد أن هنالك مسلم قد يقبله حيث يقول: " يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ ، فَيَغْفِرُهَا اللهُ لَهُمْ ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى" ولم أفهم متى أصبح الله غير عادل في الإسلام.

وقال عنه الحاكم أبو احمد: ليس بالقوى عندهم والعقيلي: لا يتابع عليه وصدوق في حفظه بعض الشيي، والدارقطني: يعتبر فيه، والبيهقي: ليس بالقوي

ورغم ذلك نجد محاولات رفع مرتبة الراوي إلى أعالي السماءفي الرابط السابق لأن الرواية التي جاء بها ببساطة أكثر الروايات تشددًا لوجود لفظ المس، مع وجود روايات من طرق أخرى رجالها أوثق ولكن لا تكاد تسمع عنها في نقاشات مصافحة الرجل للأجنبية، فشداد ابن سعيد حديثه يكتب للإعتبار كما قال عنه أبو حاتم: صالح الحديث، ولا يحتج به، ولكن نجد الالتراس يحاول رفعه لأعالي السماء وتوثيقه فوق ما يتحمل، وإن قال قائل أنه منكر لوجود الحديث بلفظة أخرى ممن هو أوثق منه -بشير بن عقبة- رفضوا.

وهذا مقال لمن علل شداد بن سعيد

من طريق بشير بن عقبة، عن أبي العلاء، عن معقل موقوفاً عليه من قوله بلفظ: "لأن يعمد أحدكم إلى مخيط فيغرز به في رأسي، أحب إلي من أن تغسل رأسي امرأة ليست مني ذات محرم".

وبقراءة حديث بشير بن عقبة ندرك لما لا نجده في تلك النقاشات، فأن تغسل رأسه امرأة لا تتساوي ومصافحة امرأة، وستلجأ من لا يحب التأويل للتأويل، فإن كنت قد قلت لهم المس هو الجماع لرفضوا ولكن الآن سيأولون أن الغسل بمعنى اللمس، وننتقل لحديث آخر.

قول عائشة (رضي الله عنها): لا -والله- ما مست يد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يد امرأة قط إلا امرأة يملكها. رواه البخاري (6674)، ومسلم (3470)، والترمذي (3228)، وابن ماجة (2866)، وأحمد (23685)

وما لا يعجبهم في هذا الحديث أنه لا يذكر نهيًا ولا أمرًا، بل قد تكون تلك خصيصة من خصائص النبي.

عن عائشة قالت: ما كان يوم أو قل يوم إلا وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف علينا جميعا فيقبل ويلمس ما دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هي يومها ثبت عندها.

وإن أبقينا على الحديث بلفظة شداد بن سعيد لرجحنا أن معنى المس الجماع، فلم نقع عليه في القرآن إلا جماعًا وكذلك في لسان العرب وفي الأحاديث

{أو لامستم النساء}[النساء: 43، والمائدة: 6]

يحاول البعض تقوية معنى المس باللمس بعد ذلك بترك الحديث واللجوء للقرآن الكريم بتفسير الآية القائلة "لا تقربوا الزنا" بأن القرب يتضمن اللمس والتقبيل وكل شيئ، ولا أدري كيف جمعوا بين اللمس والتقبيل في مكان واحد وكأنهم بهذا القرب، كأن يصافح رئيس الشركة موظفيهم الإناث مساو لأن يقبلهم!

ثم يأتوا بالحديث الذي تضمن في ثناياها أنواع الزنا حين قال "اليد زناها البطش" وساووا -من التعصب- بين البطش والمصافحة، وكأن عاقلًا يدرك علاقة بين تلك الكلمتين!! فالمعنى مختلف أشد الإختلاف ويحمل اللفظة ما لا تتحمله، فيحاولوا تقوية المعنى باللجوء للتراث وتفسيره للحديث فيزيدوا الطين بلة، فلا يدركون زنا اليد باللمس وما معناه، ولا أعتقد أني من المفترض أن أشرح معناه في مجتمع ديني، ولكنه على اقل تقدير يدخل من باب المداعبة، بعيدا عن أن اللسان زناه الكلام في نفس الحديث وليس الكلام كله زنا بل بعضه وأقل قليله، فتتوقع ان يكون المس كذلك؟

ثم إذا ذُكرت أم حرام وجدت البعض اختراع لها نسبًا إلى الرسول، لا يدرك أحد أوجه الصحة في هذا النسب، والعاقل يرى ببساطة أنها محاولة لنصر أيدلوجية معينة.

يحتجون بأن النظر حرام فما بالك بالمصافحة؟ والرد ببساطة أن أغلب العقلاء يرون جواز النظر لليد والوجه -ما يظهره الحجاب- وبالتالي تبطل حجتهم إلا من يرون أن المرأة كلها حرام ويجب أن تختفي كلها ولا يظهر منها شيئ، فهؤلاء حجة على أنفسهم.

في النهاية لا أهدف من هذا الموضوع شيئًا صراحةً، فبحثي لم يوصلني إلا إلى أن كل قوم يتبعون هواهم، هؤلاء يؤولون لاثبات حرمانية مصافحة، وأولئك يؤولون لإثبات العكس ولا فائدة ترجى بالنسبة لي من مثل هذه النقاشات، قأولًا أنا أرفض التحريم إلا بنص صريح قاطع متواتر كالقرآن أو ما تواتر من الحديث، وأرفض استعمال أساليب أحجر على منافسي استعمالها في النقاش، كانت فائدة الموضوع بالنسبة لي إلقاء ضوء بسيط على خصوصية اللغة القرآنية تمهيدًا لما بعد وتجميع بعض الآراء والحجج عن تلك المصافحة للرجوع إليها لاحقًا، وأعتذر عن الإطالة، وشكرًا.

للمزيد: