هدف الإنسان منذ القِدم هو الحصول على السكينة وراحة البال، وقد استطاع الناس قديمًا أن يتكاملوا في حياتهم، فيفيد بعضهم بعضًا دون أن تتحول العلاقات إلى صراع مصالح.

لكن مفهوم السعادة في الكسب تعرّض للتحريف، فأصبح في ظاهره وباطنه كسبًا على حساب الآخر، وجمعًا للأموال لإشباع الرغبات والملذّات، ثم غُلِّف هذا كله اليوم باسم التخصص.

تحوّل التخصص إلى معيار للتفاضل بين الناس، وسُجنت العاطفة باسم العقل، وأخذت الأعمال طابع التمييز والتفريق، حتى بين الأخ وأخيه. وأصبحت الدراسة ونيل الرتب والشهادات تُعامل كقيمة الذهب والألماس، ومن لا يمتلكها يُنظر إليه وكأنه بلا قيمة، أو كأنه دُفن قبل أن يموت.

وهنا يُطرح السؤال:

هل هذا التمييز مطلوب؟ وهل له نفع حقيقي؟

والجواب: بالتأكيد لا.

مهما بلغت قيمة تلك الأوراق والأرقام المكتوبة بين السطور، فهي ليست سوى جزء من عقل الإنسان، بينما بقية قدراته وطاقاته لا تُحصى. صحيح أن التفكير مهم، لكن الإدراك والوعي بالحال أهم من التفكير نفسه.

فالأجيال التي سبقتنا، هل كانت أحلامها مبنية على أرقام وشهادات؟

لقد عرفوا التفكير الصحيح دون الحاجة إلى هذه المسميات، واستطاعوا الحد من الشر، وبناء القوانين، ووضع الدساتير، وممارسة التجارة، وكتابة المؤلفات، كل ذلك قبل ظهور الشهادات الملونة والمصطلحات الحديثة.

ليست هذه المعايير ضرورة تُفرض علينا، بل هي وسيلة من وسائل التكسب، لكن كثيرين لم يستطيعوا رؤية ما خلف الستار من طرق التكسب والأهداف.

ويرجع ذلك إلى تضخيم المصغّر، أي تضخيم شيء أكبر مما هو عليه، بتأثير المجتمع وضغطه، مع الغفلة عن بقية مجالات الكسب.

وسرعان ما يتأثر الإنسان بما هو رائج، فالعادة وليدة التعود، حتى شُبّهت هذه الشهادات بمستلزمات الحياة، وكأن الإنسان سيموت بدونها، وهذا اعتقاد في غير محلّه.

فقد عاش الأوّلون، وعملوا، ونجحوا دون الحاجة إليها.

وإن قيل إن هذا هو التطور، فالرد واضح:

التطور طبع من طبائع الأشياء، لكنه لا يُلغي الحياة، بل قد يسهلها أحيانًا ويعقّدها أحيانًا أخرى. فليس كل تطور تقدمًا، كما أن نمو الإنسان من شاب إلى شيخ تطور، لكنه لا يعني زيادة في الفهم أو القدرة.