في قلب هذا الطرح النبيل تكمن واحدة من أعقد وأصدق المعضلات التي تواجه المجتمعات العربية اليوم وهي التحولات البطيئة والعميقة التي لا تصدر ضجيجًا لكنها تعيد تشكيل الإنسان العربي من الداخل
نحن بلا شك نعيش لحظة مفصلية حيث تتراجع السرديات الكبرى التي طالما شغلت الأذهان كقضايا الصراع السياسي والحلم القومي والمعارك الأيديولوجية لتحل محلها تحولات ناعمة لكنها بالغة التأثير لا تعلن عن نفسها في نشرات الأخبار ولكنها تترسخ في تفاصيل الحياة في نمط اللباس في طبيعة العلاقات في الطموحات وحتى في اللغة التي نعبر بها عن أنفسنا
الشباب العربي اليوم لا يشبه آباءه لا في أسئلته ولا في أولوياته فبين جيل تشكل وعيه على وقع المعارك والهويات الجمعية وآخر تفتح وعيه في عالم مفتوح على مصراعيه سريع افتراضي ومتشظ أصبح السؤال عن الهوية والانتماء والجدوى أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى
لكن هل هذا انزلاق نحو الذوبان الثقافي أم هو تطور طبيعي في سياق عالمي لا يرحم من يركن إلى الجمود
في الواقع ما نشهده لا يمكن تأطيره في ثنائية النهضة أو الذوبان إنه صراع خفي على المعنى فبين العولمة التي تطرح أنماطًا جديدة من العيش والواقع العربي الذي يعاني من اختلالات هيكلية تنشأ طبقات جديدة من الهوية هجينة أحيانًا لكنها حية هذا الجيل رغم تشتته الظاهري ليس بالضرورة بلا جذور بل يبحث عن طرق جديدة للتعبير عن جذوره وربما يعيد تعريفها بأسلوبه
وهنا يبرز التحدي الأكبر هل نملك نحن كأفراد ومؤسسات ونخب فكرية اللغة والأدوات لفهم هذا التحول هل نكتفي بالرثاء والنقد أم نخوض هذا التحول بوعي ونشارك في إعادة صياغة المفاهيم لا قمعًا للتجديد بل توجيهًا له نحو ما يثبت الإنسان دون أن يجمده
إن الهوية لا تصان بالشعارات بل بإنتاج معنى مشترك يواكب الزمن ويصون الأصل من دون أن يرفض الفرع
في العمق ما يحدث ليس انكسارًا بل تشكل جديد والمسألة ليست في مقاومة التغير بل في المشاركة الواعية فيه كي لا نستبدل بهويات جاهزة بل نصوغ هويتنا بصوتنا بإبداعنا وبمصالحتنا مع أنفسنا وتاريخنا
نعم في زحام الضجيج هناك من يصمتون لا لأنهم غائبون بل لأنهم يبنون في العمق ما لا يراه السطح
التعليقات