ها أنا ذا أفضل أن أُصلي صلاة العشاء في المنزل، رُغم أنه لا يبعد المسجد عن البيت إلّا أمتار، لدرجة انه اذا انتهى الأذان، أستطيع أن أكون في السطر الأول ولن تفوتني ركعة، والمُعتاد أن الخروج يكون قبل الأذان، وهذا يعتمد على المسافة.

على كُلٍّ، لا خِلاف في ذلك، نعم، أعترف انني لا أملك حُجّة لعدم الذهاب!.

لكني تسائلت مع نفسي مِراراً عند ذهابي لصلاة الفجر :”لماذا أنا فقط شاب في المسجد، والجميع هنا كبار السن، أصغرهم سِتّيني! ..،أين ذهبت فئة الشباب، أنحن في القارة العجوزة (قارة أوروبا)؟!”

كنتُ كلما أعود من المسجد أحدث والدتي عن هذا الشيء، لكني لم أجد جواباً، سوى أنني كنت مُقتنع بالنمط الذي رُسم في ذهني أن شباب هذا البلد منشغلون بما هو ممتع في هذه الحياة، من ملذات وبالذي “يُحلّل به سنين شبابه” ، لأني سَبقَ وأن عِشتُ فترةً لا بأس بها مع الأتراك في السكن الحكومي KYK في نفس الجناح وفي نفس الغرفة أيضاً!.

كان الجميع يذهب في عطلة نهاية الأسبوع ليلتقي صديقته مبتهُجاً، وعند مغادرتهم السكن |بذريعة المِزاح| كنت أسمع وأتَلقّى منهم بعض العبارات “زال البأس أيها العازب”.

نعم هذه هي نظرة ( المجتمع العلماني) للشخص الذي بلغ عمر الثامنة عشر ولم يرتبط بصديقة أو لم يكن لديه حبيبة على أنه منطوي أو مريض نفسي، مابالكم بالذي بلغ الثانية والعشرون!.

ولإنه مجتمع عاطفي ولطيف لن ينسى مواساتك على ذلك!.

ولايحق لي أن اُعمم في هذا |أن الجميع يسلك هذا السلوك|، ولو كنتُ على صواب.

ولو كان من الممكن أن أنتقد أو ألوم، لوضعت اللوم ليس على شباب هذا المجتمع فقط، بل أيضاً على رجال الدين من أئمّة ودُعاة ومشايخ..!

لأن هنالك بعض الأمور الصغيرة في الواقع والكبيرة في أعينهم! ،فمثلاً أن تذهب للصلاة وتدخل المسجد من غير أن تردتي جوارب “شرابه” على قدميك، ستجد منهم نظرات توحي لك أنك إرتكبت خطئاً فاحشاً ولا أدري ما إذا كان ينبغي عليك ان تُنذر أو تتوب!.

أو من الأمور (المُحببة المكروهة)، أنك يجب أن تُصلّي السنة أربع قبل الصلاة وبعد الصلاة دون أن تُسلّم! ، يعني إذا ذهبتَ لصلاة الظهر لِتُصلّي أربع ركعات، يجب أن تُصلي إثنتاعشر ركعة!.

فهي محبوبة لأنها إتّباعاً لسنّة النبي (ص)، ومكروهة لأن المجتمع لايزال علماني، وسيكون الأمر ثقيل جداً عليه، وستكون النتيجة بالطبع هي المللّ والكسلّ في آداء الفروض، وكان من الأولى و الأصح هو أن تُعلّم هذه الأمور بشكلٍ تدريجي، دون أن يشعر الشخص بذلك.

ولو كان هنالك صدر رَحب كما يقولون، لكُنت إنتقدتُهم بالقول “ألم تعلموا أن العلمانية قد إمتدت جذورها وتغلغلت في جيلين متتاليين في هذا المجتمع؟!

هذا التغلغل لم يكن فقط في الأمور الدينية، بل أيضاً في الأمور القانونية وهو الأساس بالنسبة لمن ينتهج هذا الفكر.

فعندما تم القضاء على ماتبقى من الدولة العثمانية، اُستُبدِل دستورها الذي يستند على الشريعة الإسلامية بِقانون مدني مُستنبط من القانون السويسري والإيطالي.

وهذا تناقض تماماً مع الذي إعتادت عليه هذه الأمة في أُسلوب حياتها ، مما تسبب هذا الأمر بِمُتلازمة أشبه بالإنفصام |شعب مُسلم +قانون مدني| وهذا ما حدث في الواقع.

اذكر أنني في أحد المرّات، عندما كنتُ متّجهاً من إسطنبول إلى مدينتي التي أعيش فيها، اُتيحت لي الفرصة للحديث مع أحد كبار السن وهو تركي، كان الحديث ودّي للغاية، بدأتُ في التعرّف عليه، ثم انتقلتُ مادحاً هذا البلد حكومتاً وأرضاً، وهو أُسلوبي الذي إعتدت عليه لكي أكسر حاجز الصمت.

تحدثنا عن موضوع الحجاب، وأنه يملك من أبنائه فتاة ترتدي الحجاب وفتاتين لا، وكيف أن القانون المدني يمنح المرأة الحرية في الإختيار ويُعاقب كل من يسعى لأن تكون عائلته ملتزمة متحصنة بمبادئ وقواعد ديننا الإسلامي |بذريعة إحترام الحقوق والمساواة بين الذكر والأنثى|، إلاّ أنني لآحظتُ انه كان مستاءاً لممارسات هذا القانون المدني، وكيف يتحكم بأمة لازالت تسعى لإستعادة نمط وأسلوب حياتهم القديم، وإستعادة ماذهبت من قيم، ولو أن المائة العام كانت كفيلة لِتُخرجهم حتى من المِلّة.!

كان لا أحدث يتحدث سِوانا في الحافلة، رغم اننا كُنّا نتحدث هَمّساً، ألا أن هَمسنا كان يبدو مسموعاً.

كانت تجلس في المقعد الذي أمامنا فتاة كاشفة الشَعر |لاترتدي حجاب|، كان يبدو عليها أنها منفتحة. قالت لنا بِعَجّرفه “إصمتوا.. لاتتحدثوا”.

شعرنا بالإستياء من الأسلوب الذي لا يتناسب مع شخص بِعُمرِ جَدِّها، ولا حتى مع شاب بعمرها!، لم نُصغِ إليها وواصلنا الحديث..ثم مرة أخرى بنفس الطريقة تصرفت الفتاة!.

وضعتُ ميكرفوني (فمي) وأقتربت منه وقلتُ هامساً يبدو أنها اُستُفِزّت من حديثنا عن “الحِجاب،وموضوع مُساوات المرأة بالرجل، دعنا نُغيّر الموضوع!”،نظر إليَ ضاحِكاً الخال، وقال “نعم بالضبط”.

انا أيمن، من اليمن، مسلم، وشافعي المذهب، أعيش في تركيا منذ أربع سنوات، أتيت متلهّف، معجباً بهذا البلد، مفتوناً بكل صغيرة وكبيرة، لغتها التركية اللطيفة (الرومنسية)، مجتمعها الجميل، جمال الطبيعة المُبهر، مناطقها الخضراء الشاسعه، غاباتها وأدغالها العجيبة، تاريخها العريق الحقيقي الذي عندما تتجول في شوارع إسطنبول لا تحتاج لقراءة كُتب التاريخ العثماني، لأنك قد تجد نفسك تمر من جانب قصر “بيلار بيه” المشهور الذي أمر ببنائه السلطان عبدالعزيز، أو سيصادف أنك تمر من جانب أسورة قصر ” توب كابي” والذي كان مركزاً مهماً لإقامة سلاطين الدولة العثمانية لأربعة قرون، وعند عبورك من مضيق البسفور ستجد أمامك قصر “دولمة باهجة” والذي كان يُعد المركز الإداري الرئيس للدولة العثمانية.

ولِقصّة صوت أذان المساجد معنى آخر ، فبينما انت تتجول في شوارع هذه المدينة ستقف ثم تتجه نحو مصدر صوت الأذآن لِتذهب للصلاة، ثم ستجد نفسك تصلي بمسجد “أبي أيوب الأنصاري” وهو أول مسجد بناه العثمانيون بعد فتح القسطنطينية، وبِمُجرّد أن وضعت أول قدم عليه،ستتأمّل وستندهش بطريقة البناء وستتيقّن كيف كان للإسلام شأناً عظيماً، أو قد تسوقك قدميك للتجول بساحة مسجد”أيا صوفيا” الذي قام السلطان محمد الفاتح بتحويله إلى جامع عقب فتح القسطنطينية بعد أن كان كنسية، ثم إن عند خروجك من الصلاة سترفع عينيك قليلاً لتجد أمامك قِباب جامع “السلطان أحمد”.

نعم، ستجد كل شيء أمام عينيك!.

ولو أنك قرأت في التاريخ لوجدت مُغالطات كثيرة، وأحداث كبيرة مطموسه في المجال السياسي و الحربي من بطولات وإنتصارات.

ووصل الأمر إلى أن يوصف ويُعتبر هذا التواجد في كُتب تاريخ هذه الدول على أنه “إحتلال وغزو عثماني”، رغم أنها عاشت فترة لا بأس بها من التنمية والنمو في المجال العمراني، والمُؤسف أن هذه الدول التي إعتمدت هذه المُسمّيات، هي دول إسلامية وعربية!.

لكن بعد مرور مائة عام على التآمر و القضاء على الدولة العثمانية، هانحن اليوم نُشاهد التأثير الكبير على الوطن العربي بل العالمي من المسلسلات التركية التي تتحدث عن التاريخ العثماني العريق مثل مسلسل أرطغلل، وعثمان، وعبدالحميد الثاني، وغيرها، والذي كان الهدف منه تغير بعض المفاهيم والصورة النمطية الخاطئة التي سعى الغرب جاهداً على رسمها بأذهان العرب و الدول التي كانت تحت سيطرة الحكم العثماني بشكلٍ عام.