كثير منا سمع بعملة البيتكوين الرقمية التي وصل سعرها يوم الأربعاء 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 إلى 11 ألف دولار، ولنعد إلى بداية هذه العملة الرقمية المثيرة.

قام مستخدم مجهول للإنترنت اسمه ساتوشي ناكاموتو Satoshi Nakamoto بنشر بحث صغير لا يتجاوز الصفحات التسع بعنوان:

Bitcoin: A peer-to-peer Electronic Cash System عرض فيه نظام البيتكوين للتداول، مستخدم لمستخدم دون وسيط. الغريب أن هذا الشخص بعد أن قام بتقعيد هذا النظام وشرحه لشبكة المستخدمين الذين تبنوا التعامل بهذه العملة الرقمية قد انسحب من النظام، ويقول بعض المتعاملين بهذه العملة إن ساتوشي يملك مليون بيتكوين، وهو مبلغ يفوق 10 مليارات دولار بالسعر الجديد الذي وصل إليه البيتكوين!

الغريب في أمر ساتوشي هو مجهوليته تمامًا، وقد قام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالادعاء أنه هو مخترع البيتكوين في أول أبريل (نيسان) 2017 بتغريدة على موقع تويتر، مما أثار آلاف التعليقات حول التغريدة التي تزامنت مع كذبة أول أبريل!

كيف تحصل على البيتكوين؟ الخيار الأول أن تقوم بشرائه عن طريق الدفع بأموال حقيقية من مستخدم آخر وهذا يتطلب أن تنشئ حافظة إلكترونية مخصصة لحفظ العملات الرقمية ذات عنوان يتم عبره التداول من وإلى الحافظات الأخرى التي يمتلكها بقية المتداولين. الخيار الثاني هو التعدين أو التنقيب وهذا ما خصصت له هذه المقالة، لشرحه على ما فيه من غرابة ومفارقات!

ولكن دعنا أولًا نعرف ما إذا كانت هذه العملة قابلة لشراء المنتجات كما العملة الحقيقية. في الحقيقة توجد مواقع تبيع المنتجات نظير البيتكوين، وأعداد هذه المواقع يتزايد كل يوم لحجم الاستثمارات الضخم الذي ضخه المستخدمون في هذا التداول الرقمي.

جميعنا سمعنا بفيروس الفدية الذي يقوم بتشفير ملفات الأجهزة ثم يرسل الهاكر رسالة للمستخدم يحدد فيها المبلغ المطلوب بالبيتكوين لفك التشفير وتمكين المستخدم من استعادة ملفات جهازه!

وعلى الصعيد الرسمي فقد اعترفت ألمانيا بهذه العملة بل أعلنت أنها من الممكن في المستقبل أن تفرض ضرائب بالعملة الحقيقية على الشركات التي تربح ملايين الدولارات من سوق البيتكوين الرقمي! وتم افتتاح بنك لصرف البيتكوين في النمسا، مع أن المؤسسات المالية تحذر منه وتصر على أن الأمر ليس سوى فقاعة اقتصادية، ستنفجر بعد أن تصل قيمة البيتكوين لمداها الأقصى ليخسر المتداولون أموالهم ومدخراتهم.

عزيزي الرقمي، أعني يا عزيزي الإنسان الذي يريد أن يستثمر أمواله الحقيقية بصورة عصرية رقمية، يمكنك بكل بساطة تعدين البيتكوين بواسطة جهاز الكمبيوتر الخاص بك لتجني الأرباح وأنت جالس على أريكتك الوثيرة. البيتكوين هي عملة تشفيرية تتحصل عليها بواسطة برنامج التعدين أو التنقيب حيث يقوم هذا البرنامج بحل ملايين اللوغاريثمات في سلسلة طويلة ومعقدة من العمليات الحسابية لتحصل على بيتكوين واحد، فتقوم الشبكة بمنحك البيتكوين كجائزة لحل هذه العمليات. تستطيع بواسطة تنصيب البرنامج على جهازك أن تبدأ في التعدين بجعله يبدأ في حل المعادلات، لكنك لن تحصل سوى على 0.00001 – 0.00005 من البيتكوين في يوم عمل كامل!

حيث إن عمل الجهاز لفترة 24 ساعة يتطلب أن تشغل مكيف الهواء لتبريد الجهاز، بمعنى أنك خسرت ما دفعته من مال لقاء الكهرباء ولم تحصل على شيء بالإضافة لإهلاك الجهاز في عمليات حسابية تستهلك من عمره الافتراضي أو تؤدي به إلى التعطل.

لتدعيم جهازك فلا بد من أدوات التنقيب وهي أجهزة ذات مواصفات عالية يقدر سعرها بآلاف الدولارات تمكنك من التنقيب بسرعة أكثر بآلاف المرات من سرعة جهازك العادي، وبحساب سعر هذه الأجهزة زائد سعر الكهرباء المستخدمة في التشغيل والتبريد، يمكن في أفضل الأحوال أن تسترد رأس مالك بعد 10 أشهر من التنقيب المتواصل!

أما عن ماهية هذه العمليات الحسابية المعقدة فهي سرية تمامًا لا يعرف أحد من المستخدمين ما يجري فيها، وهذا الغموض الذي يكتنف المخترع ساتوشي وبرنامجه لم يلتفت إليه المستثمرون.

لنأتِ لمراكز التعدين الكبيرة التي أنشأتها الشركات، بواسطة وضع معالجات ضخمة للغاية يتم مدها بمصادر كهرباء للتشغيل والتبريد، وتقوم هذه الشركات ببيع خدماتها فيما يعرف بالتعدين السحابي، وهو أن يقوم المستخدمون بشراء باقات الهاشات، وهي الوحدة التي تقاس بها سرعة التعدين (هاش/ ثانية) أي عدد العمليات الحسابية التي يقوم بها المستخدم في الثانية، حسب الباقة التي قام بشرائها. حيث يرسل المستخدم ثمن الخدمة بنقود حقيقية لحساب الشركة، ثم يبدأ التعدين لصالحه في معالجات الشركة. وقد وُجد أن الطاقة التي تستهلكها عمليات التعدين في سنة واحدة تعادل استهلاك عدة دول مجتمعة!

شركة جينيسيس للتعدين Genesis Mining هي شركة ضخمة تقوم بتعدين البيتكوين ومصنعها في أيسلندا حيث تم اختيار هذه الدولة لثلاث ميزات هامة في هذه الصناعة، الجو البارد لتعمل الأجهزة التي تولد حرارة هائلة في ظروف ملائمة، ثم توفر خدمة الإنترنت الجيدة حيث إن التعدين لا يكون إلا عبر الاتصال بالإنترنت، وأخيرًا رخص أسعار الكهرباء، فالتعدين كما سبق أن عرفنا يستهلك كمية ضخمة من الكهرباء مثله مثل الصناعات الأخرى!

لنتعرف الآن على معامل الصعوبة في تعدين البيتكوين. قام ساتوشي ناكاموتو مؤسس نظام البيتكوين بوضع عدد محدد لعملات البيتكوين، هو 21 مليون بيتكوين فقط. حيث يكون التعدين في البداية سهلًا ولكنه يزداد صعوبة كلما واصل المعدنون في إنتاج المزيد من العملات. حيث إن كمية الكهرباء المستخدمة لتعدين أول مائة من البيتكوين أقل من المائة التي بعدها، وذلك لأن عدد العمليات الحسابية يكون أقل في الأولى. حاليًا المعروض من العملة لا يتجاوز 17 مليون بيتكوين إلا ربع مليون تقريبًا. وبما أن التعدين يزداد صعوبة كلما زاد الإنتاج فعمليًا يصبح عدد المنتج من العملات أقل بمقدار النصف كل أربع سنوات، ثم أقل بمقدار النصف بعد أربع سنوات أخرى. وتشير التوقعات أنه بمراعاة عامل الصعوبة في التعدين فإن المنتج سيصل إلى السقف الذي وضعه المؤسس ساتوشي عام 2140 م.

ربما جعلني معامل الصعوبة للتعدين أفكر قليلًا في غياب ساتوشي بعد سنوات قليلة من تأسيس نظامه بدلًا عن التمسك به ورعايته. سبق أن أشرت إلى أن التوقعات تقول إن ساتوشي يمتلك مليون بيتكوين وهي الأولى في النظام بطبيعة الحال، وتم إنتاجها بتكلفة منخفضة حين كان سعر البيتكوين الواحد يقدر بـ0.0001 دولار فقط لسهولة تعدينه وقلة العمليات الحسابية اللوغاريثمية التي تتزايد صعوبتها مع توليد المزيد من البيتكوينات. بسعر اليوم فساتوشي المجهول يستحق أن يدون اسمه في قائمة مجلة الفوربس لأثرياء العالم.

في خاتمة هذا المقال، أود الإشارة إلى أن قيمة الكتلة النقدية المتداولة في سوق البيتكوين تقدر بـ158 مليار دولار. كما أن البيتكوين هو عمدة سوق العملات الرقمية، فعلى غرار البيتكوين وبعد نجاحه دخلت السوق عدة عملات أخرى مثل الإيثريوم والبيتكوين كاش والبيتكوين قولد، وقد بلغت الكتلة النقدية المتداولة بسوق العملات الرقمية مجتمعة حاجز الـ300 مليار دولار!

وإليك موقعين لمتابعة أسعار العملات الرقمية المتذبذبة جدًا فأول أمس بلغ سعر البيتكوين أكثر من 11 ألف دولار وهو الآن أقل من 11 ألف دولار بقليل