في قلب القاهرة الصاخبة، حيث تختلط أصوات الباعة مع ضجيج السيارات وأنين الحياة اليومية، عاشت فاطمة. لم تكن مجرد فتاة عادية؛ كانت وردة نادرة تنبض بالأمل والحياة، حتى في أحلك الظروف. كان عام 2011 قد ألقى بظلاله على الجميع، مع حالة من الفوضى والترقب تسيطر على الشوارع والقلوب. لكن فاطمة كانت تحلم بمستقبل أفضل، مستقبل تصنعه بيديها وبذكائها اللامع.
كان حلمها الأكبر هو أن تصبح مهندسة معمارية. قضت ليالي طويلة تدرس وتخطط، ترسم خطوطًا على الورق وكأنها تبني مدنًا كاملة في مخيلتها. كانت متفوقة في دراستها، ومصدر فخر لعائلتها البواسطة التي كافحت لتوفير أبسط مقومات الحياة. كانت والدتها، السيدة أمينة، تدخر كل قرش، وتعمل بلا كلل لضمان أن ابنتها لن تعاني نفس المصاعب التي واجهتها هي.
في أحد الأيام، وقبل أسابيع قليلة من امتحانات الثانوية العامة الحاسمة، قررت فاطمة أن تذهب إلى إحدى المكتبات الكبيرة في وسط البلد لشراء كتب مراجع نادرة. كان الجو مشحونًا بالتوتر السياسي، والمظاهرات تندلع بشكل متقطع. حذرتها والدتها من الخروج، لكن إصرار فاطمة على تحقيق حلمها كان أقوى من أي خوف. "هذه الكتب ستحدد مصيري يا أمي، يجب أن أحصل عليها!" قالتها بابتسامة تبعث الطمأنينة، لكن قلب أمينة ظل مقبوضًا.
ذهبت فاطمة، ومر الوقت ثقيلاً. الغروب حل، ولم تعد فاطمة. اتصلت أمينة بها مرارًا وتكرارًا، لكن هاتفها كان مغلقًا. بدأ القلق يتسلل إلى قلب الأم، ليتحول إلى رعب مع حلول الليل. خرج الأب ليبحث عنها في كل مكان ممكن، من شوارع وسط البلد إلى أقسام الشرطة والمستشفيات، لكن لا أثر لفاطمة.
في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، جاء الخبر الذي مزق قلب العائلة. تم العثور على فاطمة. لم تكن حية. كانت جثتها ملقاة في شارع جانبي شبه مهجور، بالقرب من المكتبة التي كانت ذاهبة إليها. التحقيقات الأولية أشارت إلى أنها تعرضت لهجوم عنيف خلال أعمال عنف عشوائية اندلعت فجأة في تلك الليلة. لم تكن جريمة قتل متعمدة أو سرقة، بل كانت ضحية للعنف الأعمى الذي تفشى في تلك الفترة العصيبة.
لم يتم القبض على الجناة أبدًا. ضاعت تفاصيل القضية في فوضى الأحداث، وتلاشت مع مرور الأيام مثل كثير من القضايا الأخرى في ذلك الوقت. دفنت فاطمة، ودفن معها حلمها وطموحها وابتسامتها المشرقة. تحولت وردتها إلى ذكرى مؤلمة، تروي قصة فتاة كانت تسعى للنور في زمن الظلام، لكنها ابتلعت في دوامة العنف الذي لم يفرق بين بريء ومجرم.
ظلت والدتها تعيش على ذكرى فاطمة، تزور قبرها كل أسبوع، وتضع عليها وردة بيضاء، رمزًا للنقاء الذي كانت تتمتع به ابنتها، وللحلم الذي لم يتحقق. هذه القصة ليست مجرد حكاية، بل هي جزء من الألم الذي عاشه الكثيرون في تلك الفترة، تذكرة بأن بعض الخسائر لا تعوض، وبعض الأحلام تتبدد قبل أن ترى النور، تاركة وراءها قلوبًا محطمة وذكريات لا تمحوها الأيام.
التعليقات