بين الأسر والحرية
كانت ليلةً باردة، مزيج من الظلام والقسوة يخيم على كل شيء. صرير الأبواب الحديدية يتردد في رأسي كصوت مطرقة تحكم إغلاق عالم بأسره خلفي. كنت أجر نفسي بخطوات ثقيلة نحو زنزانتي الجديدة، حيث الصمت يصرخ أكثر من الكلمات، وحيث الظلام لا يترك مجالاً لأي ضوء أو أمل.
ليلة واحدة كانت كافية لتغيير كل شيء. جلست على الأرض الباردة، مستندًا إلى الحائط، أفكر في حريتي التي أصبحت تهمة، وفي حياتي التي انقلبت رأسًا على عقب. لم أبكِ على نفسي، بل على أولئك الذين سيحزنون لغيابي. أمي، التي كانت دائمًا ترى فيَّ الأمل، كيف ستتحمل هذا الألم؟ أحبتي الذين كانوا معي في كل لحظة، كيف سيواجهون غيابي المفاجئ؟ كنت أحاول أن أبدو قويًا، لكن داخلي كان ينهار شيئًا فشيئًا، كجدار هش تآكله الزمن.
مع بزوغ الفجر، شعرت وكأن عامًا قد مرّ، رغم أنني كنت هناك لساعات فقط. مرت الأيام الأولى بطيئة ومثقلة. كنت أراقب الضوء الشاحب الذي يتسلل من شق صغير في السقف، وكأنه يذكّرني بأن الحياة تستمر، حتى لو كنت أنا خارجها. لم يكن لدي شيء سوى التفكير والذكريات. النوم كان مهربي الوحيد، رغم أن الأحلام كانت قاسية، تعيدني إلى الحرية التي فقدتها.
كان الجوع رفيقي الدائم في هذا السجن. كسرات الخبز اليابسة كانت كل ما أملك، لكنها لم تسدّ رمقًا أو تملأ فراغ معدتي. في كل يوم، كان الجوع ينهشني بلا رحمة، وكأنه جزء من عقوبتي. لم يكن لدي زيارات تخفف عني وطأة الوحدة، لا أحد يطرق بابي ليعطيني شيئًا من الأمل، أو ليخبرني أن هناك من ينتظرني خارج هذه الجدران.
كل شيء كان قاسيًا، حتى الملابس التي أرتديها. تلك البدلة الزرقاء التي أعطوني إياها في أول يوم دخلت فيه السجن، أصبحت رمزًا لما أنا عليه الآن. كانت رقيقة، بالكاد تحميني من البرد الشديد الذي يتسلل عبر الجدران الإسمنتية في الليالي الطويلة. كنت أحتضن نفسي في الزاوية، أحاول أن أستجمع بعض الدفء، لكن عبثًا. حتى هذا الدفء كان بعيدًا عن متناولي.
ثم جاءت لحظة التحقيق. دُقت على باب الزنزانة، صوت عالٍ وصارخ أيقظني من سباتي. فتح الباب ووجدت أمامي رجالًا ملثمين. وضعوا قناعًا أسود على عيني وقيدوا يدي، ثم جروني في ممرات باردة ومظلمة. كنت أسمع صوت خطواتهم وصوت السلاسل التي تُجر خلفي. كان المكان يحمل رائحة الرطوبة والدماء، وكل زاوية فيه تروي حكاية عذاب.
في غرفة التحقيق، جلس رجلٌ أمامي. لم أستطع رؤية ملامحه، لكنه كان واضحًا في أسلوبه: ترهيب ووعيد. الكلمات كانت تخرج منه كالسكاكين، والضربات كانت تلاحقها فقدت عدداً من اظافر يدي وقدمي ليزيد من الألم. كنت أشعر أن كل شيء داخلي يتحطم: كبريائي، قوتي، وحتى إرادتي. لكن رغم ذلك، لم أظهر ضعفي. كنت أقاوم بصمتي، وأخفي خوفي تحت قناع من الجمود.
مرّت الأيام، ولم يعد لدي طاقة لعدّها. كنت أكتب على الجدران، أحاول أن أحتفظ بعقلي وسط هذا الجنون. لكن مع الوقت، توقفت عن الكتابة. كانت الجدران نفسها تبدو وكأنها تسخر مني، تحصي أيام سجني بينما أحاول نسيانها. وجدت على الجدران كلمات تركها آخرون قبلي: "لا تحزن، كنا هنا." شعرت بأنني لست وحدي، أن هناك من عاش هذا الألم قبلي وخرج منه.
ثم جاء اليوم الذي سمحوا لي فيه بالاتصال. كنت متلهفًا لسماع صوت أمي. عندما سمعت صوتها على الطرف الآخر، انهارت دموعي، لكنها لم تكن دموع فرح. صوتها كان مليئًا بالعتاب والألم. "لماذا؟ كيف وصلت إلى هنا؟" كانت كلماتها كسياط تضربني، ولم أستطع الرد. انتهت المكالمة سريعًا، لكنها تركت أثرًا عميقًا في نفسي.
مرّت شهور أخرى، وكل من حولي بدأوا يختفون. الأصدقاء الذين كنت أظنهم سندًا، الأقارب الذين كنت أعتقد أنهم سيقاتلون من أجلي، كلهم تخلوا عني. لم يبقَ لي أحد. كنت وحيدًا، أواجه نفسي وأواجه الحقيقة: لا أحد يضحي من أجلك عندما تكون أنت المخطئ.
في يوم ما، فتح الباب. قالوا لي: "أنت حر." تلك الكلمات التي كنت أنتظرها لسنوات لم تحمل لي الفرح الذي تخيلته. خرجت إلى العالم الخارجي، وعيناي تبحثان عن وجه مألوف، عن أحد ينتظرني، لكنني لم أجد أحدًا.
لم يكن هناك استقبال، لا فرحة، لا أحضان. وقفت في منتصف الشارع، حيث الشمس كانت تسطع للمرة الأولى على وجهي بعد سنوات. شعرت بحرارة الضوء، لكن برد الوحدة كان أقوى. عادت لي، لتحكي قصة أيام البرد والحرمان.
امتلأت عيناي بالدموع، ليس دموع الحرية، بل دموع الانكسار. كأن كل ما عشته في الداخل كان أهون من هذا الشعور. لأول مرة شعرت بثقل العالم على كتفي، وعرفت أنني لم أخرج حقًا. كنت لا أزال أسيرًا، لكن هذه المرة أسير الوحدة والخذلان.
في الشارع، رأيت الحياة كما لم أرها من قبل. الناس يتحركون، السيارات تسير، الألوان تملأ المكان، لكنني كنت أشعر وكأنني أشاهد كل هذا من خلف شاشة مشوشة. كل شيء بدا غريبًا، بعيدًا عني.
قررت أن أترك كل شيء خلفي. لا جدوى من البقاء في مكان لم أعد أشعر أنه لي. جمعت ما تبقى من إرادتي، ورحلت. لم أخبر أحدًا، ولم أترك أثرًا. كانت هجرتي قرارًا نهائيًا، ورحيلي كان البداية لحياة جديدة، بعيدًا عن كل ما عشته، وبعيدًا عن كل من عرفوني.
🇩🇪
التعليقات