عشق تدوين الشعر وروايات "نجيب" وبعض من كتب "محمد درويش" ، لكنه الآن مجبر على القراءة لرواد علم الاقتصاد من قبيل "دافيد ريكاردو" ,"ميلتون فريدمن" و "كارل ماكس" . لطالما سمع عن حب الشيء وعلاقته بالنجاح لكنه علم ان افكار كهذه لا مكان لها هنا في بلاده حيث الفرصة تضرب مرة واحدة ووحيدة ، لهذا يجب استغلالها وعدم تضييعها حتى لا تضيع معاها . لا بأس سيتخرج بعد خمس سنوات ليحصل على وظيفة راقية ثم يعود الى عشقه القديم وسط جنته الصغيرة . لكن هل سيستمر شغفه الى ذلك الحين ام انه سيذبل ليجعل حياته بلا معنى ؟
في الحقيقة لم يكن علمه بواقع بلاده هو السبب الرئيسي لتركه كلية الاداب ،حيث الطريق نحو النجاح مستحيل كما يقول البعض ، والاتجاه نحو مدرسة التجارة ،حيث المستقبل المشرق يبدو جليا واضحا في الافق ، لكن السبب الحقيقي وراء اختياره المؤلم هذا هو والدان ارهقتهم الدنيا فرأوا فيه المعين فاختار ما اختار وضحى بما ضحى لعل هذا يقلص دينه عندهم .وكان كلما سأله ابوه : هل انت مرتاح هناك يا بني ؟ زين وجهه بابتسامة نكرة ليجيبه قائلا : نعم وكيف لا اكون كذلك . وفي غضون سنة انقلبت رحلته من رحلة بحث عن الذات الى رحلة البحث عن المعنى ، لقد حاول مرارا وتكرارا لكنه لم يفلح ، لا يمكن باي شكل من الاشكال ان ينسجم مع باقي الطلاب ، هو لا ينتمي الى ذاك المكان بل ينتمي الى عالم منفصل تماما ، عالم تحكمه عملة واحدة الا وهي الكلمات المتناغمة . يا ترى متى يتسنى له ان يقرأ شعره امام احد المهتمين ليستفيد ويفيد ؟ يا ترى متى تعود حريته التي فقدها منذ حصوله على شهادة الباكالوريا ؟
حاول ان يقسم وقته بين حضوره لفصوله في مدرسته و بعض فصول الشعر في كلية الاداب لكنه لم يستطع مسايرة الامر ، فخاف ان يرسب في مدرسته فترك فصول كلية الاداب نهائيا واكتفى بنظم الشعر في اوقات فراغه حيث ظن انه سيجد حريته ، لكن هيهات ثم هيهات فضميره لم يتوقف عن تأنيبه لتركه دراسته المثمرة التي يستطيع ان يرسم بها ابتسامة لا تفارق محيى والديه . انتهى اخيرا العذاب وعناد الذات ، وجاء وقت الحصاد .
اليوم استطاع وبشق الانفس ان يتخرج بميزة جيدة من مدرسته ويلتحق بعمله في مدينة الجيزة محاسبا في احدى الشركات هناك . هل هذه هي الحياة التي كان يردها ؟ طبعا لا . هل هو سعيد بعمله ؟ لا والف لا . هل هو سعيد ؟ نعم فوالداه كذلك . لكن لا بأس فساعات عمله قليلة وله من اوقات الفراغ ما يكفيه ليدرس الشعر من اساسياته الى مرحلة التمكن . آه تلك الاحلام مجددا ، نعم كل هذا كان فقط من نسج خياله لا الا . تلك هي الصورة المثالية التي ارادها لحياته بعد 5 سنوات من الان ، لقد نسي المسكين ان الحياة لم تكن بهذا الكرم ابدا ، هي هكذا دائما ما تعطيك تحديات اشد صعوبة لتختبر صبرك و عزمك على مرادك ، هي فقط تحاول التأكد انك فعل تستحق ما تطمح له .
" لن اكمل " هكذا فاتح اباه الحديث يوم جاء لزيارته ومعه بعض النقود له . تعجب الوالد للامر فهو لم يفهم المعنى من كلامه فسأله : لن تكمل ماذا يا بني ؟ احنى رأسه في اسى فقد اثرت فيه كلمات والده تاثير لم يعرف له سببا ، فارتأى ان يؤجل الحديث عن هذا الموضوع الى يوم اخر ، فصمت ولكن اباه لم يصمت فقال له بحزم : يا بني هذا حديث بين الرجال وحديث الرجال تحكمه لغة مباشرة واضحة . ثم اضاف : لن يزعجني قولك اكثر من اعراضك عن الكلام هيا اسرع وقل ما لديك ،فان لي عملا ينتظرني . لم يستطع ان يصارح اباه بخوالجه ، فقد خاف سخطه وهو الذي علق عليه كل اماله للخروج بالعائلة من حياة الفقر والحرمان . لم يضغط عليه ابوه بعدها فقال له وهو يضحك : ما بك يا سيمحمد لم اعهدك هكذا ؟ كن رجلا لعل الرجولة تكون درعك فالتصدي للحياة واهوالها ، حسنا لابأس سأتركك الان الى اللقاء . وقبل ان يودعه جال بباله سؤال كان من المفروض ان يسأله اياه لحظة لقائه فناداه من بعيد : لماذا لم تحضر امي معك اليوم ؟ فرد عليه بسرعة وكأنه يحاول اخفاء شيء في ما يخص هذا الموضوع : هي فقط لديه بعض الضيوف ولم تستطع تركهم وحدهم . نعم هو لم يرتح لجواب والده الذي بدا للوهلة الاولى منطقيا لا يثير الشكوك لولا انه يعرف والدته جيدا فلو كانت فعلا معها ضيوف لاتصلت به هاتفيا ، كما فعلت في العديد من المرات ، واخبرته قبل ان ياتي ابوه لمقابلته ، زيادة على ذلك لم تعد له امه شيء اليوم لا فطائر ولا كعكا كما اعتادت ان تفعل دائما . " شيء ما قد اصاب والدتي ، يجب ان اذهب للاطمئنان على حالها فور انهائي لامتحانات الدورة الخريفية ."
تلقى الخبر بالصدفة وهو ماض الى ابن عمه المهدي ليسترد منه بعضا من اغراضه . وهو في طريقه ترام الى مسامعه صوت المهدي وهو يحادث احدا في الهاتف .
-ألووو ألوووو ، هل تسمعني جيدا؟
-اجل يا عمي
-حسنا كيف حالك؟
-بخير ربما
-وهل سيمحمد بجانبك ؟
-لا انا وحدي الان
-كيف حاله ؟ انت تعلم انني لم استطع التكلم معه منذ الفاجعة ، لاني خفت ان يلاحظ شيئا .
-يبدو لي انه على احسن ما يرام ، انه قد بدأ ينسجم مع الكل هنا ، وقد التقينا البارحة واخبرني انه قد انهى كل امتحاناته وقد اجتازها بشكل جيد ، وهو الان يستعد لزيارتكم عما قريب .
-زيارة ؟! طبعا لا يمكننا اخفاء الامر اكثر من هذا .
-الله يرحمها ، اني لا اتصور ردة فعله عند العودة ، انه ليفطر القلب ان يفقد المرء امه في الوقت الذي هو في امس الحاجة الى وجودها الى جانبه لتشجيعه على المضي قدما.
سمع كل شيء ، وفي تثاقل شديد ادار ظهره لابن عمه وغادر المكان .
هل هذا يكفي ؟ بدأ الامر بحمى بسيطة جعلت من الام طريحة الفراش لايام ، لكن الامر زاد سوءا حين اصرت على مغادرة السرير للقيام باعمال المنزل فعادت هذه المرة الى الفراش بحمى اكثر خطورة زكام والتهاب شديد في حنجرتها ، وكانت في حاجة ماسة الى دواء يخفف عنها المرض لكن اليد قصيرة فكل المال القليل الذي جناه الزوج خلال الاسبوع قد اودعه لولده بعد ان زاره الجمعة الفائتة فاوصاها بالصبر ووعدها ان يحصل لها على الدواء خلال الاسبوع القادم فوافقت باماءات من رأسها ، لكن الوقت لم يسعفها وفارقت الحياة . هل هذا يكفي ؟ هل هذا يكفي ليبرر فعله ؟ اجل و لربما اكثر من اللازم .
وفي صباح يوم الاحد ، جاء المهدي ليطمئن على سيمحمد فوجد باب الغرفة مفتوحا نقر نقرتين فلم يجب احد ثم دفعه ليتفاجأ بسيمحمد معلق وقد اشتد حبل قوي على عنقه ، وعلى السقف نحث : "الحياة دونها جحيم "
التعليقات