(١)

امشي في الطرقات، لا شيء هنا يبعث على اليأس، الجدران ممتلئة بعبارات الثوار، الجوّ يعبق برائحة الغاز المسيّل للدّموع، الجميع يأخذ هدنة، يبدو ان الكلّ بحاجة للرّاحة.

امشي من دون وجهةٍ محددة، آثار الدماء لا زالت على الارض، لا شيء أيضاً يبعث على الحياة.

شعرتُ كأنّني في مدينة المنتصف، لا حياة، لا موت، لا أمل ولا يأس.

منذ دقائق كان هذا المكان يشبه ناراً مستعرة وحفلة مفرقعات: من جهة كانت العناصر الامنية التابعة لأجهزة السُّلطة ومن جهةٍ أخرى كان ما يُعرف بالثّوار. 

جنونٌ ما افعل أنا الآن، فأنا لست داعماً لأيٍّ من طرفي النزاع، صحيحٌ ان هذا قد يحميني في مكانٍ ما، لكن السّبب عينه قد يكون ذريعةً جيدة للتهجم عليّ.

أتقدم بالمشي أكثر، فيصادفني عنصر أمن، يسألني من أين جئت وماذا أفعل، ينظر اليّ بنظرات ثاقبة ونظرات اتهام مُسبق، يجدني لا أحمل شيئاً ولا حتى حقيبة ظهر، يتفحصني جيداً فيكتشف وجود هاتفٍ جوّال في جيبي، يطلب مني ان اريه الهاتف، فانفّذ من دون اعتراض. لم يجد في الهاتف، خلف الشاشة المكسورة، ما يبعث على الشّك ولكنّه كذلك لم يجد ما يبعث على الاطمئنان، بدا كأنه يقلب في رأسه الشخصيات التي يتقمصّها في حياته، فيقرر أخيراً ان يلبس دور الشخصية الاسوأ، ثم ينظر الي بقسوة غير مبررة ويزمجر قائلا: "اذهب من هنا". 

استأذنه بالذّهاب، فيجنّ جنونه، بدا كبطّةٍ لا تستطيع ان تقرّر ما إذا كانت تريد المشي ام السباحة، يصفني بالوقح، لا أدري، هل استفزته اخلاقي بالحديث معه؟ ام انه اعتبر انني اقابلُ إساءته بالحسنة؟ وهو ما جعله يغضب الى حدّ الجنون؟ على أيّة حال، اضطررت للذّهاب بعد تهديده اياي بالقتل ان "لم اتحرك من وجهه" انصرفت وغربت عنه وهو يمطرني بشتائم وعبارات والفاظ، لا اتذكر معظمها الآن. 

(٢)

اقرّر ان التقطَ له صورة، اقرّر ان أسجّل انتصاراً وهمياً عليه وان اساعد ذاكرتي بالتوثيق. حقاً ان الذّاكرة تنسى، او قد تنتقي حزمة من الذكريات وترميها في رأسك ليتخبط بها فجأةً ومن دون انذار. اه، والاسوأ من هذا، حين تضيف الى ذكرياتك تفاصيلاّ لم تكن موجودة اصلاً، وذلك بدافع استثارة الألم او الفرح فيك، وكأنها تلعب معك لعبة رهان ومقامرة.

التقطت الصورة ومشيت، لم ينتبه لي، فقد حرصت ان اتخفّى جيدا، اذ ان غضبه كان قد بلغ اوجه، انتصرت عليه! اجل لقد اصبحت صورته تلك التي تثير الاشمئزاز وتبعث على الضحك في الوقت عينه بحوزتي!

في الشارع المقابل، ما زال صوت الاشتباكات يقرع رأسي. 

نظرت الى هاتفي مخاطباً اياه: يا لك من معجزة، منذ قليل كنت تعمل مساعدا لذاكرتي في التوثيق والآن ستعمل كناقلٍ لشكوتي. كم من الوقت مضى منذ ان اشتكيت على أحدهم آخر مرّة؟ آه لقد كان ذلك منذ أكثر من عشرين سنة، يوم كنت في الجامعة حين قام أحد الأساتذة بالتهجم عليّ لأن أحد زملائي قام بمضايقته، ولأنني كنت دائماً صامتاً فقد وجد فيّ "كبش المحرقة" الأنسب ليفرغ غضبه وليثبت لباقي الطلاب وجوده. أذكر يومها أنني اشتكيت لإدارة الجامعة، وكان الرّدّ حينها أعنف من تهجم الأستاذ نفسه، اذ كيف يحق لي ان اتجرأ واشتكي وانا، على حدّ قول الإدارة حينها "نكرة لا أعرف اصلاً كيف أتحدّث". ولكنني اليوم، قرّرت في لحظةٍ ما ان اشتكي، ولمّا كنت لا اتردد ابداً حين يخطر لي القيام بشيء فقد هاتفت رقم المسؤولين عن العناصر الأمنية بعفوية شديدة ومن دون اي تفكير.

(٣)

لا زلت اذكر ذلك اليوم الذي سجّلت فيه هذا الرقم، اذكر انه كان يوماً عادياً، يوم في مرحلة السّلام النادر حدوثها في الوطن، حينها جاءت ثلّة من عناصر الأمن لتأخذنا في رحلة الى عالم السّلاح والأمن، اذكر جيداً رفيقتي هالة. كنت غير مبالٍ بهذا الحدث، فأنا دائماً ما كنت كارهاً لكلّ ما يمت للاستعراض بصلة، كنت أفضل الأعمال الصّامتة التي تحدث ضجيجاً، ولكن هالة كانت متحمسة جدا، لا أدري ان كان ذلك بفعل الوطنية ام بفعل انها تحب احداً من العناصر الأمنية المتواجد في هذا العرض. على أية حال، قامت يومها بالتقاط هاتفي وسجلت فيه هذا الرقم. 

انزعجت يومها من تصرّف هالة ذاك، كيف يحق لها ان تمسك هاتفي بهذه الجرأة؟ ولكنني لم اقل لها شيئا، كانت عادتي القاتلة دائماً "الصّمت" في كل المواقف. 

أتذكر هاتفي القديم، أتعجب كيف تمّ نفيه خارج إطار المنافسة الالكترونية اليوم، هل أنه لم يعد كافياً لأنه فقط كان فقط يقوم بعمله كهاتف؟ هل يجب اليوم على الهواتف والناس أن تكون متعددة المهام كي تصلح للبقاء؟ هل أصبح شعار هذه المرحلة "البقاء لمتعدد المواهب"؟

ولكن اليوم اقرّر ان اتكلم، وان أرسل شكواي، فأجد نفسي اطلب الرقم المدوّن. 

طالت الرنات قبل ان يجيب أحدهم. في الجانب الاخر من سلك الهاتف، يجيبني صوت رجل تخين، بدا كأنه صحى للتوّ من نومه. 

  • ماذا تريد؟ 

  • هل هذا هو الرقم المخصص لشكاوى المواطنين؟ 

  • نعم، ماذا تريد؟

  • أريد ان اشتكي على العناصر المسؤولة عن الاشتباكات في هذه المدينة، صوت الرصاص يؤلم اذني، وايضاً هناك عنصر رمقني بنظرات اتهام غير مبررة، ويجب ان يحاسب.

وابل من الشتائم ينهمر. 

-الو؟ هل تسمعني؟ 

لقد اقفل العنصر الخطّ في وجهي! حسنا لا بأس انها شكوى جديدة سأقوم لاحقاً بتقديمها. 

انزعجت من هذا الاتصال! لقد علّقت امالاً كثيرة عليه. انها المرة الاولى منذ زمن التي اقرّر فيها ان اشتكي من شيء يزعجني! ظننت أن حقوق الإنسان تزداد أهمية مع الوقت، ومع ذلك لا أجد سوى الشتائم. 

(4)

قررت ان أكمل طريقي، دخلت في شارع ضيق، لا أثر فيه للحياة، قد يكون مرتعاً للكلاب والقطط الشاردة.

توقعت ان اسمع اصوات حيوانات تتصارع، ولكن الّذي اسمعه لا يشبه صوت الحيوان! اجل انه انين شخصٍ ما! 

اقتربت أكثر.. فوجدت فتاة تنزف وتأنّ من كثرة الالم.

اقتربت أكثر، شعرت هي بوجودي. 

حقاً! كم ان النّساء قويّات! كيف لها ان تستشعر وجودي مع كميّة الالم تلك التي تبدو عليها؟ هل يكون ذلك بفعل أن غريزة الأمومة وبالتالي التنبه للأخطار تكون حاضرة لديهنّ؟

  • ساعدني أرجوك. 

سمعت هذه الكلمات، هل قالت هي ذلك؟ ام انه خيّل لي؟ كيف بوسعها ان تتكلم وبقعة الدم حولها قد تكون أكثر مما يسير في عروقها من دماء؟ 

اقتربت منها، سألتها ماذا افعل؟ 

لم أدرك حجم حماقة هذا السؤال الّا عندما رمقتني بتلك النظرة القاتلة، نظرة مخيفة ومهيبة لدرجة أكاد اجزم ان ذاكرتي ستوثقها حتى اخر يوم في حياتي من دون ان يشوبها اي تغيير ومن دون الحاجة الى صورة الهاتف.

هممت بمساعدتها، بالكاد استطاعت الكلام قائلةً بصوت ضعيف ولكن بلهجة متكبرة وآمرة: أوقف النزيف بطريقة ما! 

انزعجت حينها، فانا حتى اللّحظة لست مع اي فريق نزاع، انا مواطن نعم، ولكنني نزلت بصفتي غريب.

جئت هذه الشوارع متفرجاً فقط، فكيف لها ان تأمرني هكذا، وكأنني أحد رفاقها في التحركات؟ وانا لست سوى شخص من دون هوية معنوية ومن دون اهتمام يُذكر لا بالدّولة ولا بالشّعب.

(5)

كنت قد تعلّمت الحياد منذ انتهاء الحرب الأخيرة التي عصفت بالبلاد، يومها كنت شابّاً يافعاً، آمنت بقضية طائفتي على انها قضية وطن. رأيت حينها كيف اصطفّت الجيوش معنا، فقطعت الشك باليقين: نحن أصحاب حق علينا ان نستردّه من هؤلاء.

حتى اليوم لم أجد تعريفاً ل”هؤلاء “، ولم أعلم أنهم أيضاً كان لهم نصيباً من الجيوش المصطفة معهم. ولكنني أعلم اليوم أن "هؤلاء" كانوا مواطنين أيضاً وأشخاصاً لم يحلموا سوى بحياة. لم أجد حتّى اليوم سبباً حقيقياً لجعل "هؤلاء" أعداءاً وهميين، لم أجد مبرراً حتى اليوم لجلوس قادة المحاور سوياً ومصالحهم المشتركة، هم الّذين كانوا يزجّوا بنا في أعتى المعارك وأعنفها، ويحذروننا من الآخرين ويصوروهم لنا وحوش على هيئة بشر.

ولكنني أجد في كلّ يوم ما يذكرني بفداحة خساراتي: لا مأوى، لا عمل سوى الفرص التي يمنّ علي بها بعض المقربين من باب الشفقة، ندبة دائمة والم سيزيفي، كأنه عقاب لن ينتهي الاّ يوم وفاتي.

(6)

شاهدت في هذه الفتاة نفسي يوم اصابتي، اتألّم وحيداً، متروكاً لأنزف حدّ الموت. لا أدري اليوم هل هم حقاً صدقوا انني متّ وتركوني بين ركام الجثث ذاك؟ ام انهم اصلاً لم يقيموا حجماً لنا، نحن "المقاتلين" الذين كنا بنادقهم ودروعهم البشرية، ولهذا لم يتكلّف أحد عناء السؤال عن حالي. 

قررت ان أساعدها، تذكرت كيف انني تمنيت يومها ان تنزل معجزة من السماء وتنقذني، تذكرت كيف صلّيت في حينها اصدق صلاة في حياتي، تذكرت كيف ان الله أرسل الي من ينقذني من جحيمي ذاك، ساحباً اياي من بين يدي الموت ليبعثني الى الحياة من جديد. 

اذكر حجم دهشتي حين علمت انّ من أنقذني من الموت كان ما اتفقنا على تسميته اصطلاحاً ب "العدو"، اذكر جيداً مشاعري المختلطة بالخذلان والخزي والعار والفرح والحزن، هل افرح لأنني نجوت؟ هل ابكي لان كل معتقداتي تهدمت بلحظة امام عيني؟ ام اشعر بالعار من هذا الذي كنت من بضع دقائق اصوب بندقيتي نحوه ومستعداً ان ارديه قتيلاً في ايّة لحظة هو من أنقذني.

حينها كانت نقطة التحوّل الكبرى في حياتي، تحوّلت حينها الى شخص بليد المشاعر، لا يهتم لشيء ولا يصدق اي شيء. قد أكون لا زلت أعيش مرحلة "ما بعد الصدمة" حتى بعد مرور أكثر من عشرين عام.

(٧)

مزّقت قطعة من قميصي، لأوّل مرة من زمن شعرت بأنني غيري، لم اهتمّ للقميص الممزّق على الرّغم من أنني كنت افضله على باقي القمصان التي املك. 

لفيت يد الفتاة بقطعة القماش، تمكنت من ايقاف النزيف. 

يداي الآن ملطختان بالدماء، قميصي ممزق، هاتفي ذي الشاشة المكسورة يختزن صورة العنصر الغاضب ذاك، كأنّ هذا الهاتف يختزن واحداً من اهم انتصاراتي، بجانبي فتاة مصابة قد تموت في اية لحظة، ورائي في الشارع الآخر يمتزج صوت الليل بطلقات الرصاص، لا أحد يعلم كم من اصابة قد وقعت حتى الآن. عقلي يضج بذكريات طفت الى السطح تكاد ان تقودني الى الجنون، قلبي يأن وجعاً على نفسي وعلى وطني المفقود.

هالة؟! أهذا انت يا هالة؟ أيعقل ان تكوني انت؟

مزيجٌ من المشاعر، مزيجٌ من الالام، احساس بالإنسانية عاد بعد أن رحل منذ زمن، شعور بأن تلك الدوامة السيزيفية من الآلام قد آن الاوان لكسرها، قرار يأتي على فجأة من ذاتي: سأساعد الفتاة، سأقف هذه المرة بجانب وطني، سأنضمّ لهذه الثورة...