لمَّا خلق الله عزَّ وجلَّ الكون أودع فيه صنوفاً شتَّى من الآيات والبراهين الدالة عليه لتبقى شاهدةً على بديع صُنعه وخلقه، ولتكون علامة يَهتدي بها العبد بفطرته السويَّة إلى ربه، وكذلك أنزل الله سبحانه وتعالى كتبه وأرسل رسله بالدِّين القويم والشرع السليم ليبقى العبد على اتصال وعلاقة بخالقه.
ويُعتبرُ الإيمان هو الصلِّة بين العبد وربه، فيبقى من خلاله متصلاً بالله متعبداً إليه ويرجع إليه في النائبات والشدائد، وقد فطر الله الخلق على هذه العلاقة حتى يكون العبد في استقرار نفسي وإشباعٍ روحي، ولو نظرنا إلى الذين قطعوا علاقتهم مع خالقهم كالملاحدة والدهريين لوجدناهم في حالةٍ من التخبط والاضطراب ولا يستقيم لهم حالٌ ولا جواب نتيجة الفراغ الروحي والضياع النفسي الذي يعانون منه، فهؤلاء قد أخرجوا أنفسهم من هذه العلاقة، فلا يجدون ولياً ولا نصيراً من دون الله.
ولكن حديثي خلال هذه السطور يكمن حول العبد المؤمن الذي حافظ على أصل علاقته مع الله عزَّ وجلَّ، مؤمناً به وموحداً، ولكنَّ تلك العلاقة قد يعتريها ضعف وفتور، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الإيمان ليَخْلَقُ في جوف أحدكم كما يَخْلَقُ الثوب، فاسألوا الله أن يُجدّد الإيمان في قلوبكم)[1].
وسأحاول إن شاء الله من خلال هذه المقالة ذكر الأسباب التي تُضعف علاقة العبد بربه، وكيف يُجدّد العبد تلك العلاقة:
بلا شكّ أنَّ المعاصي كبيرها وصغيرها سبب رئيسي في ضعف إيمان العبد المؤمن، فإنَّ العبد إذا أكثر من المعاصي وأصرَّ على بعضها يقسو قلبه ويصبح عليه حجاب يمنعه من إبصار نور الحقِّ والإيمان، وقال الله عزَّ وجلَّ [كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون]، (المطففين - 14)، قال ابن جرير الطبري رحمه الله عند تفسير تلك الآية: [أي أحاطت بها القلوب فغطَتها].
وكما أنَّ للخمر سكرة تغشى العقول وتُذهب بها، فإنَّ تلك المعاصي لها سكرةٌ تغشى القلوب وتُذهب بصحوتها ويقظتها وتبقيها في غفلةٍ عن ذكر الله وطاعته، ولمَّا كان القلب هو محلّ تلك العلاقة بين العبد وربه علمنا خطورة تلك المعاصي على إضعافها، وإنَّ الشيطان يسعى أصلاً لقطع هذه العلاقة بين العبد وربه لينقل العبدَ من الإيمان إلى الكفر والعياذ بالله، ولكن من مكر الشيطان أنّه يتدرج بالناس في المعاصي والبدع رويداً رويداً حتى يصلَ بهم إلى مُبتغاه، ولذلك لا يستهينُ العبد المؤمن بالمعاصي مهما كانت صغيرةً في نظره، فإنَّ لها تأثيراً متراكماً على القلوب، وصدق القائل إذ قال:
خلِّ الذنوبَ صغيرها وكبيرها ذلكَ التُّقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تَحقِرَنَّ صغيرةً إنَّ الجبال من الحصى
وإضافةً إلى ما سبق من المعاصي، فإنَّ التقصير والتكاسل في الفرائض والنوافل سبب آخر لضعف الإيمان، ولا سيّما ترك السُنن والتهاون فيها، ومعلومٌ أنَّ السُنن والنوافل تجبر النقص في الفرائض كما جاء في الحديث أنَّ الله تعالى يقول يوم القيامة: [انظروا هل لعبدي من تطوع، فيكمَّلَ بها ما انتقص من الفريضة][2].
وكما قال العلماء أنَّ ترك السُنن مقدمةٌ للتفريط والتقصير في الفرائض، بل اعتبر العلماء أنَّ ترك السُّنن تهاوناً من علامات نقصان الدين، وأنَّ تركها استخفافاً بها من علامات الفسق.
وإنَّ هذا الباب على تفصيله يطول ويمتد، فإنَّ المسألة إجمالاً أنَّ ضعف الإيمان الذي هو علاقة العبد بربه له أسبابٌ كثيرة متعدّدة، فوجب على العبد أن يجتهد في اجتناب النواهي وترك التقصير في العبادات بفرائضها وسُننها.
والسؤال المهم في هذا المقال، كيف نُجدّد العلاقة مع الله؟، فإنَّ الإجابة لها إجمالٌ وتفصيل، فإجمالاً أقول: لا بدَّ للعبد أن يتّقِي الله عزّ وجلَ في حركاته وسكناته، وأن يستحضر معية الله سبحانه وتعالى في كل وقت وحين، وأن يُجاهد نفسه على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
أما تفصيلاً، فسأعرج على ذكر أمثلةٍ من العبادات دون الفرائض تساعد العبد على تجديد إيمانه وتقويته في قلبه بإذن الله تعالى.
أولاً – [الدعاء] فلا شكَّ إنَّ الدعاء عبادة جليلة عظيمة، رغّب الله بها في غير موضع من كتابه، فقال: [وإذا سألك عبادي عنّي فإنَّي قريبٌ أجيب دعوة الداعِ إذا دعان]، (البقرة - 186)، وقال: [وقال ربكم ادعوني استجيب لكم]، (غافر-60)، فلذلك يحرص العبد على الدعاء بأن يُثبت الله الإيمان في قلبه، فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم [اللهم يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك]، وقد أمرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله أن يُجدّد الإيمان في قلوبنا في قوله: [فاسألوا الله أن يُجدّد الإيمان في قلوبكم][3].
ثانياً – [قيام الليل] وهذه عبادة لها فضلٌ عظيم وأثر كبير في تنشيط همّة المؤمن وإيقاظ القلب من غفلته وتطهيره من أدرانه، كونها العبادة التي يُسِرّها العبد بينه وبين ربه، وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة كثيرة في الحضِّ على هذه العبادة والحمد لله، وقال الله تعالى مادحاً أهلها: [تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يكسبون]، (السجدة - 16)، وعلى الرغم من أنَّ هذه العبادة قد يظنُّ البعض أنّها شآقّة كونها تُشرع في الليل وهو وقت السكون والراحة، إلا أنَّ لها تأثيراً عجيباً على تنشيط البدن، ورحم الله الإمام القحطاني عندما قال عن صلاة التراويح [وهي تُعتبر من صلاة قيام الليل].
إنَّ التراويح راحةٌ في ليلةٍ *** ونشاط كل عُويجِزٍ كسلانِ
ثالثاً – [قرآءة القرآن] وهي عبادة فاضلة ومن أجلِّ العبادات، فالعبد فيها يناجي ربّه بكلماته وحروفه، ولا أعلم أكثر من القرآن دواءً للقلوب من أمراضها وطِبّاً لها من أسقامها، وضعف الإيمان مرضٌ من أمراض القلوب، وتلاوة القرآن علاجه وطبّه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مَثَل الذي يقرأ القرآن كالأُتْرُجَّة، طعمها طيب وريحها طيب] [4]
رابعاً – [الأذكار والتسبيح] والمحافظة على هذه العبادة علامة ودليلٌ على صحة الإيمان وسلامته، فهي صفة ملازمة للمؤمنين، فمن صفاتهم أنَّهم يذكرون الله كثيراً، وعلى النقيض فإنَّ المنافقين لا يذكرون الله كثيراً على قال الله تعالى عنهم: [ولا يذكرون الله إلا قليلاً]، (النساء – 142).
وقد جاءت الآيات كثيرة في فضل الذكر والذاكرين، فقال الله تعالى: [إنَّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقِنا عذاب النار]، (آل عمران - 191)، وقد بشّر النبي صلى الله عليه وسلم الذاكرين بالفوز والسَّبق إلى رضوان الله تعالى فقال: [سبق المُفّرِّدون، قالوا: وما المُفّرِّدون يا رسول الله؟، فقال: الذاكرين الله كثيراً والذاكرات] [5].
ومن تلك العبادة أذكار الصباح والمساء والنوم، فهي حِصن المسلم وحِرزه من الشيطان الذي يسعى بعملٍ دؤوبٍ لإضعاف علاقة العبد بربه، فإنَّ الحفاظ على هذه الأذكار يحمي المؤمن من وساوس شياطين الإنس والجنّ، ويكون في حفظ الله ومعيته، وقد دلّت عددٌ من النصوص على تلك العبادة، فقال الله تعالى لعبده زكريا: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }، (آل عمران -41)، وفضائل الأذكار لا تُحصيها هذه الكلمات والحمد لله، فهذا من عظيم فضل الله على عباده، وقد صنّف العلماء رحمهم الله تعالى مصنّفاتٍ خاصة بالأذكار وفضائلها ولعلّ منها كتاب الأذكار للإمام النووي رحمه الله تعالى.
فهذه أمثلة لبعض العبادات التي تُعين العبد على تجديد علاقته مع ربه، والعبادات بابها واسع، والأعمال الفاضلة التي تُجدّد الإيمان لا تُحصى، فكلّ اعتقاد أو قولٍ أو فعلٍ يُقصد به وجه الله تعالى فإنَّ صاحبه يُثاب عليه، وهذا مفهوم من تعريف ابن تيمية رحمه الله للعبادة [هي كلمة جامعة لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة].
فينبغي للعبد أن يتعاهد نفسه بتجديد إيمانها، فإنَّ النفوس لها إقبالٌ وإدبار، والكيّس الفطن من بادر نفسه حال إقبالها واجتهد في الطاعات والأعمال الصالحات حتى تكون له ذُخراً وخبيئةً حال إدبار النفس وكسلها، وإنَّ جلاء القلوب مما رانَ عليها وكساها من الذنوب يحتاج إلى عملٍ دؤوبٍ وهمّة متنامية، فنسأل الله تعالى أن يُعيننا على أنفسنا بالعمل الصالح والطاعات، وأن يُثبّت الإيمان في قلوبنا ويُجدّده، والحمد لله رب العالمين.
_________________________________________
[1] أخرجه الألباني في صحيح الجامع، رقم 1590
[2] أخرجه أبو داود في السنن، برقم 864
[3] سبق تخريجه
[4] أخرجه البخاري في صحيحه، برقم 5020
[5] أخرجه مسلم في صحيحه، برقم 2676
التعليقات