منذ القدم والحاكم معرض لرصد سلوكاته، علانية إن كان عادلا، أوسرا إن كان مستبدا،، وتاريخنا الإسلامي حافل بالاعتراض عليه في تبادل مريح بينه وبين الرعية، ومنه استفسار حباب بن المنذر النبيَّ صلى الله عليه وسلم على مكان معسكر غزوة بدر الكبرى، فكانت استجابة النبي صلى الله عليه وسلم القائدِ العسكريِّ سريعة مادام الأمر تخطيطا لا وحيا، ومنه الإعلان التاريخي للخلفاء الراشدين أن (أعينوني ما أطعت الله فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم)، ثم توالت المعارضات تترى على الحكام بمختلف أنواعها، التي يمكن تلخيصها في الآتي:
المعارضة البناء:
وهي عمل شجاع ناصح بكل أدب وخلق دأبت عليه مدرسة النبوة، لا يخشى في الله لومة لائم، يُنظر في مشاريع الحاكم وقراراته بمنافعها ومفاسدها ليقال له أحسنت أوأسأت رجاء الإصلاح لا الكيد المسبق، بالتواضع والاحترام وتبيان مقصد النصح، وفي هذا نستحضر مثال استنكار عمر بن الخطاب على الخليفة أبي بكر اعتزامه قتال مانعي الزكاة وقد نطقوا بكلمة التوحيد، إلى أن شرح الله صدره لفهم أبي بكر العلاقة بين الصلاة والزكاة.
وهذا الذي استفاد منه الغرب المسيحي وأدبر عنه الوطن الإسلامي.
المعارضة الهدامة:
أصيب المجتمع الإسلامي بمرض فتاك، مزق نسيجه المتماسك، وهو داء الانكار على كل شيء، وعدم الرضا على الحاكم ولو نفع، كثرت إيجابياته أوسلبياته، فأصبح يُنظر إلى قبول حسن تدبيره غباء واتباعا وشراكة في الإثم والرداءة، واستثمارا في التوافق، يسقط صاحبه في أعين أدعياء الأنفة الزائدة، والشرف المتطرف، والانصراف المتشدد عن الحاكم ولو نبع منه عمل راشد، وهو ما أفسد الحياة وطرقها الحكيمة في النصح والإرشاد والتوجيه بتشجيع الحسنات، ونيل ثواب الاستجابة إن تم النصح لترك سوء تصرف، فمعترضو عثمان بن عفان رضي الله عنه أتعبوا المسلمين بلطخة سيئة حين رفضوا كل ما قرره إلى أن قتلوه.
وخصوم الصحابي معاوية رضي الله عنه أرهقوا المسلمين بالصد عن كل إنجازاته بعد الخلاف مع عليّ رضي الله عنه، رغم التئام كلمة المسلمين عام الجماعة، وجهاده وتوحيد صفوف المسلمين ورص صفوفهم عوض النظر باعتدال ووسطية إلى المحاسن وتكثيرها، والعيوب وتقليلها،، فأصبنا بـ:
المرض السياسي:
وفي زماننا أصبنا بداء التسمية بالمعارض والافتخار بها، والتشرف بصبغتها، هيئات بجمعيات وأحزاب دأبها المخالفة وفقط، تشكك في كل شيء، لا ترى جميلا في الحاكم، كل مشاريعه مشتبه فيها، كل كلمة في خطاب أوتوجيه لا تمر بسهولة على الأسماع إلا بعد التهمة، إنه علَّة أصابت النسيج السياسي في العمق، أصبح كل من يلوح له رأي يقع له حسبانهم ابتغاء إنصافه، فأصبحوا عقدة الغير، مخافة الرمي بالولاء للسلطان ولو أخلص له النصح.
المعارضة المدجنة:
ابتليت الدول والمجتمعات بكثير منها، وهي المزمار المغني للسلطان في كل حين، والتي دخلت بيت الطاعة بعد تظاهرها بالتخندق مع الشعوب، ثم تهالكت في مصالح مشبوهة ألجأتها إلى السكوت وقاية من الفضح.
ولد من رحم هؤلاء قيادات تلج باب الحاكم تزين له السوء وتتمنى دوام ظله عليها، وإذا خرجت من عنده أظهرت للعلن ما لم تبطنه،،، نددنا،، قلنا،، عارضنا،، لقد أنكرنا،،، وهو ما أنكر ولا ندد ولا قال،، كاسب مودة الرعية والحاكم في وقت واحد.
وقد اصطبغ به منتخبوها الذين يستعان بهم للمدح وتمرير كل ما تعتزمه الطغمة الحاكمة في المجالس الشعبية الوطنية والولائية والمحلية.
طلب المثالية والغفلة عن الواقعية:
طبقة لا يستهان بها من الشعوب التي رأت كرامتها تهان، ومصالحها تضيع، حفاظا من الحاكم على عرشه، وخشية على امتيازاته، انتهت إلى الاكتفاء بأشغالها الفردية الذاتية، أوتبني فكرة طلب المثالية في كل شيء، وعدم الرضا على كل ما يرمز إلى الحاكم، ولو أخلص، أوسهر الليالي لصالح الوطن، لا لشيء إلا لأن صورة الحاكم وأعوانه، من الخدم، ومحيطه أداروا ظهورهم للشعوب ومصالحها خوفا على الأنفس من الاستبداد والقهر والانتقام وفقدان المكانة والامتيازات، عمَّقت السنون حفرتها المؤثرة على حياتهم، فانطفأت شمعة ثقتها، وانقطعت شعرات وصلها وودها تجاه كل ما يدلي إلى الحكم والمعارضة، مهما تعهد والتزم، وأصبح مصطلحهما يشير إلى الخيانة والشبهة والنهب والاختلاس والاستئثار بالحقوق وتضييع المصالح وإهدار المال العام والعداء للشعب، زال عند هؤلاء من الأذهان مصطلح التدرج، والتمهل،، ومنهم طبقة لا يستهان بها تقاطع كل الاستحقاقات، فاسحة المجال للمترصدين للعباد والبلاد لخوض انتخابات نظيفة أومزورة واعتلاء سُدَدٍ كثيرة ينظرون بها من علٍ، عوض الاعتدال في تحليل الواقع، والمشاركة في تحمل مسؤولية إيجابية.
وقد التقيتُ أعدادا لا يستهان بها اختلطت عليها المصطلحات بسبب المثالية المستحيلة، منها الاشتباه لديها بين الحقيقة والمسرحية، أضحت كل الأعمال في نظرها مسرحيات، وجرد تلفيقات، وآخرها الخلط بين مصطلحي الشرعي والمقبول والعكس، تاهت بين دهاليز الشرعي المقبول، والشرعي غير المقبول، وغير الشرعي وغير المقبول، إلا أن معاذير بعضهم هو تلك الهوة العميقة بمرور السنين، فانعدام الثقة الذي أصبح مرضا لا انطباعا أوغر في صدور الناس حرارة لا تحرق اليابس فقط بل تجر معه الأخضر إلى الهشيم،، ويصبح كل شيء غير شرعي وغير مقبول.
إنني أنادي بكلماتي شعبنا إلى التوسط في التعامل مع الواقع لاكتساب منافعه وسلها من أيدي مترقبي انعزالنا، ومحاولة تحويل المفاسد إلى منافع بشتى الأساليب وليس تجنبها فقط، كي لا تستغل من قبلهم كذلك، ومعالجة أمراضنا ضمانا لوحدة تكسبنا مناعة اجتماعية قوية.
إن من بين ما يعالج أدواءنا الاحتكام إلى قيمة التدرج في التغيير، لأنه لن يتم لنا مرور إلى ضفة البرء إلا به، إذا كنا فعلا نريد الإسراع إلى الأمام، أما القفز على الزمن والارتقاء المتسرع لن يصعد بنا إلى المعالي.