أمعنْ النظرَ في تلكَ السنّارة التي يُلوِّح بها ذاكَ العمُّ هُناك،
اقترب منها.. دقّق في الطُعم الذي يستخذمه فيها،
ثُمَّ أخبرني إن وجدتها باختلافٍ شاسع عن تلكَ التي كُنتَ تراها مُنذ سنوات بينَ يديّ صيّادٍ آخر. إنها الخُدعة ذاتها أليسَ كذلك !
الطريقة ذاتها، المقلب بعينه، والخطأ الموحّد الذي تقع بهِ جميعُ الأسماكِ على مرّ العصورِ والأجيال.
ولا أظنُّ أنها ستتوبُ عنهُ ذاتَ يوم، أو تُعلِن حربًا عليه.
بغض النظر عن أنّ - افتقاد تلك الأسماك لعقل، ذاكرة، منطق أو حتى رغبة في الاستفادة من خبرات الأجداد وزلّاتهم_ كانت السبب الرئيسي لوقوعها، إلا أنني أُشفق حقًّا على تلك الكائنات، بل أُشفق علينا بشكل أوضح وأكثر شفافيّة.
أؤمن وتؤمن أنت معي بأننا نمتلك كل ما افتقدته تلكَ الأسماك لتدفعَ عن نفسها خطرَ الوقوعِ بتلكَ المصيدة أو التقاط ذاكَ الطُعم الغبي إلاَّ أننا نفعلُ ذاتَ الأمر مع طعومِ الحياةِ المُختلفة؛ نقع في ذاتِ الأخطاء ونتتبعُ ذاتَ المقالب، بل ونلحقُ الصيّادَ بعينه مُستمسكين بأذيالِ ثوبه ثم نطلبُ منه النجدة أو العفو عنّا.
الحُفر التي وقعَ بها آباؤنا الأولون وإخواننا السابقون هي ذاتها التي نقعُ ويقعُ بها أبناؤنا اليوم، لكن لرُبّما اتسعت أكثر لتُصبح بيّنة بعينيّ كُلِّ مُبصرٍ ببصيرتهِ لا ببصره، لربما أصبحت مزركشة بألوان فاتنة تُذهبُ العقول. لكننا رغم ذلك فقد بتنا نعلمُ يقينًا أين تقبعُ تلك الأخطار، وكيف يمكننا تحاشي الوقوع بها؛ أخبرنا الكثيرون عن زلّاتهم وأتبعوها بـ "لو أنني لم...." لكننا تجاهلناها دائمًا تحت إشعار : (لربما تنجح معي هذه المرة، لربما سأستطيع الخلاص بنفسي، لربما لم يكن قويًا متماسكًا مثلي.....)
سواء سرنا فُرادى أو مُجتمعين لتلك الشبكة فإن غايتنا الأولى في ابتعادنا عن القطيع كانت في البحث عن الحريات الشخصية واكتشاف العالم الأمثل من وجهة نظرنا الغير قابلة للطعن والتشكيك، وأنّ من حولنا لن يلتزموا بأي مسؤولية إن لم نُصب الغاية أو انزلقنا في شباك المصيدة؛ وكأنّ وقوعنا لن يعني خسارةً للصنف البشري أو ضعفًا للأمة.
تهامست تلك الأسماك فيما بينها ليحتموا من ذاكَ الطعم ولا يشتبهوا بينه وبين قوت يومهم فجاءت "غريزةُ الجوعِ" لتُنسيهم كل تلك الأخطار والتحذيرات التي دارت حولها أغلبُ مجالسهم.
تهامسَت الفتياتُ فيما بينهنّ ليحتموا من وحوشِ الحياة ولا ينزلقوا في مُنزلق العلاقات الفاشلة (بغضّ النظر إن كانت مُحرّمةً أو لاء) فجاءت "غريزةُ الارتباط" لتنسيهم كل ما سمعوه حولَ اختيار شريكٍ مناسب في طُعمٍ آخر يشبه رجل الأحلام، جاءهم متلبّسًا هيئة زميلٍ في الجامعة أو حبيبٍ صادق أو حتى رجل أعمالٍ غنيّ.
تهامسَ الشبابُ فيما بينهم ليحتموا من لهوِ العمر ولا يتيهوا في أزقّة المخدرات أو التبغ أو التسكّع في الطرقات ومعاكسة البنات فجاءت "غريزة الاستطلاع" لتنسيهم كل ما سمعوه حولَ استغلالِ أوقاتهم، وتجنّب رفاق السوء أو الأفلام والأغاني المبتذلة التي تزرعُ في عقولهم ما لا يمكن لأي كتاب أو حكمة أن تذرعهم عنه.
تهامسَت الأمهات فيما بينهنّ مع فنجان قهوة الصباح ليحموا أطفالهم وشبابهم من الانحراف والتمرُّد والضياع فجاءت "غريزة الأمومة" بمنطقها المغلوط في إعطاء الطفل كامل حرّيته في الاختيار، أو جذبه لها بإعدادهن سُفرةَ طعام تضمُّ ما لذّ وطاب، أو حتى بانشغالهنّ بين وسائل التواصل، أو مشاهدة المسلسلات وما شابه... لينسينَ بذلك كل ما سمعنهُ حول إعطاء الطفل الموازنة في حق الاختيار مع مساحة خاصة للتجربة، و حول إعطائه الوقت والاهتمام لا المال واللحم فقط.
كانت جميع الأدلّة والبراهين السابقة معروضةً أمامهم، لقد رأوا بأعينهم تمامًا ما حلْ بمن أمسكَ بالطُعمِ قبلهم، وما لقيهُ من هلاكٍ وفتنة وهو ما يزالُ على قيد الحياة بعد. لقدَ أتمَّ أيامه بينهم يلعنُ الحياة وقسوتها وظلمها جهلًا منه بما سعت إليه يمينه ذات يوم مُتجاهلًا كل نصائح وتجارب الأجداد أو أصحاب العلم والخبرات.
التعليقات