يُروى أن كريستوفر كولومبوس عندما وصل إلى الأمريكتين ظنًا منه أنه وصل إلى الهند، واجه إحدى القبائل الأصلية التي رفضت التعاون معه وأظهرت له العداء، ومع اقتراب نفاد المؤن توعد كولومبوس القبيلة بحرمانهم من نور الشمس محددًا يومًا وساعة لذلك، ظنت القبيلة أنه يبالغ في تهديده، لكن في الموعد الذي حدده كولومبوس، اختفت الشمس وحل الظلام لبعض الوقت أثناء النهار، مما أدى إلى انهيار أفراد القبيلة وخضوعهم لسلطته.
عند تفسير هذه القصة، ينقسم القراء إلى فريقين:
الفريق الأول: التفسير المنطقي
يرى هذا الفريق أن كولومبوس كان ببساطة يعلم بموعد الكسوف الشمسي بناءً على حسابات فلكية، وقرر استغلال هذه المعلومة لتحويل الظاهرة إلى تهديد صريح، مستفيدًا من جهل القبائل الأصلية بعلم الفلك.
الفريق الثاني: نظرية المؤامرة
يعتقد هذا الفريق أن كولومبوس تمكن بطريقة ما من افتعال الكسوف الشمسي الكلي لتنفيذ تهديده، وعند سؤالهم عن الأدلة، يجيبون بأن "هم" منعوا العالم من الوصول إلى العلوم التي تمكنهم من التحكم في الكون والحياة، فإذا سألتهم "من هم؟" سيوجهون إليك اتهامات بالجهل والتخلف والانسياق وراء القطيع، ولن تحصل منهم على معلومة مفيدة أو دليل واضح.
إشكالية نظرية المؤامرة
تكمن مشكلة الفريق الثاني في تفسير الظواهر وفقًا لنظرية المؤامرة، التي تفترض وجود طرف خفي يسيطر على العالم، يفتعل كل شيء، ويختفي دون ترك أي دليل، هذه هي الثغرة التي يقع فيها مروجو نظريات المؤامرة دائمًا: لا يوجد دليل، ولا يمكن الوصول إلى دليل، عليك أن تصدقهم فقط لأنهم قالوا ذلك، أو لأن شخصًا يثقون به قال ذلك.
المشكلة الأكبر هي أنك إن لم تقتنع بكلامهم، يطالبونك بتفسير منطقي لما يحدث، وفي الحقيقة التفسير بسيط: استفادة جهة ما من كارثة لا يعني أنها افتعلتها، بل إنها ببساطة استفادت منها، على سبيل المثال عندما ينتشر وباء عالمي وتكتشف دولة عظمى المصل بسرعة وتبيعه بكميات كبيرة ليزدهر اقتصادها، هذا لا يعني بالضرورة أنها صنعت المرض ونشرته، رغم أن الأمر قد يبدو هكذا ظاهريًا، إلا أن التفسير أبسط من ذلك.
المرض ينتشر بشكل طبيعي لكن الدولة العظمى تمتلك القدرة البحثية والعملية على إنتاج لقاح فعال بسرعة، بسبب الدعم المادي الكبير الذي تحصل عليه مؤسسات البحث العلمي فيها، كما أن السعي لإيجاد لقاح للوباء لتحقيق استفادة مادية هو أمر تسعى إليه كل الدول، ولن تبلغه إلا دولة تمتلك الإمكانيات، لذا فالدولة العظمى هنا استفادت من الوباء لكنها لم تصنعه، والدليل على ذلك أن معظم الدول العظمى المنافسة لها أنتجت لقاحات هي الأخرى في نفس الفترة، لكن التركيز كان على أول علاج كالعادة.
تأثير نظرية المؤامرة النفسي
هذا التفسير البسيط لا يعجب مروجي نظرية المؤامرة، وذلك يرجع إلى تأثير نفسي خطير لهذه النظريات المدمرة، إذا كان الفرد في مجتمع ما يعاني من ظروف صعبة، ويقرأ يوميًا في الأخبار عن كوارث وحروب ومشاكل، يميل عقله إلى البحث عن تفسير منطقي وواضح يربط كل تلك الحوادث، بالإضافة إلى تفسير حالته المادية المتدنية، حتى لو كان تفسيرًا غير منطقي، لأن هذا يريح عقله من الحيرة والأسئلة، ويمنحه سببًا وقضية يعيش لأجلها، وهي أنه من القلة القليلة التي تعلم الحقيقة، حتى لو لم يمتلك أي إثبات عليها.
وهنا تكمن العقدة لأن هذه الخرافات الفكرية تحرم الإنسان من التفكير السليم، وتسبب له حالة من "العجز المريح"، الذي ينتج عن فكرة أنه محاصر وأن هناك فئة في العالم تتحكم في مصيره وتعرقله، ومع تفاقم هذا التفكير غير السوي، يستطيع تبرير أي فشل أو مشكلة يقع فيها لنفسه بأنها بسبب "هم"، وأنه لم يخطئ في أي شيء. هذا التفكير يشل قدرة الدماغ على التحليل والتفكير المنطقي، مما يؤدي إلى سلسلة من الفشل والانهزامية النفسية والعيش في دور الضحية خلف الحوائط بعيدًا عن التحديات.
الرفض القاطع لنظريات المؤامرة
لذلك أرفض بشكل قطعي التعاطي مع أي نظرية مؤامرة، وأقاوم مروجيها، وأطالب بدليل يمكن الوصول إليه، ودائمًا ما أصل معهم إلى نفس الطريق المسدود: دفاع عاطفي بحت عن نظرية لا يوجد عليها أي إثبات.
ستظل الحقيقة دائمًا أن كولومبوس استفاد من الكسوف ولم يصنعه، وأن أمر الحياة كلها بكل ما فيها بيد الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، ولا يمكن لأي جهة أو جماعة أو دولة أن تفتعل كارثة مهما بلغت قدرتها على ذلك.
التعليقات