يستخدم المصريون العاديون مجاز "ذهب المُعز وسيفه" بل مجازاً آخر أقرب كثيراً لواقعهم الريفي وهو "التوت والنبوت". الأخير هو عصا طويلة وقوية ومتعددة الأغراض. وظلت لفترة قبل أن يتم تحديث القمع السلاح الأساسي للحرس الريفيين المعروفين باسم "الخفر". أما التوت فهو فاكهة تشبه البلوبيري الذي "يجنن" الناس في أميركا وأوروبا ويأكله الأغنياء وحدهم بسبب أسعاره المرتفعة. التوت أفضل وألذ وهو كان فاكهة الفقراء وكان في الماضي يتساقط في الفم بمحض إرادته ولا يكلف مليماً واحداً، بل كان من كثرة كرمه يلاحقك في البيت أو الترع لا يبغي شيئاً سوى أن تأكله، وربما تعلن عنه بالوسائل الشعبية وقبل اختراع التلفزيون واستئجار الروسيات لإقناعك بكل ما يريد الرأسماليون.
والمجاز كان بالطبع قوياً وموحياً جداً لأنك إما أن تأكل التوت إذا رضي عنك العمدة أو الباشا أو "تأكل علقة ساخنة" بالنبوت إن لاحت عليك علامات مبكرة للنقد أو "النمردة"، أي التمرد. ومع ذلك فبالمقارنة بالتحديث الذي طال أنظمة القمع فقد هذا المجاز قوته بل صار أشبه بالحلم أو بمتلازمة "الحنين للماضي". فبدلاً من النبوت انتشرت سائر صور التعذيب المعروفة في السجل الطويل للإجرام البشري. وصدرت قوانين الاعتقال باسم الطوارئ أو الأمن وهو منها براء، وتطورت تكنولوجيا العقاب تطوراً قوياً جداً. وحتى عندما يتم عقابك بوسائل شعبية لزوم الأصالة فما يستخدم هو "الشومة" التي يتقن استعمالها مجرمون محترفون يعملون بالتنسيق التام والدقيق مع جهات الأمن التي يأخذها الحماس بعيداً عن القانون ويقربها كثيراً ممن يحترفون كسره.
ورغم التشابه المظهري فالعقاب بـ"الشومة" يختلف عن الضرب بالنبوت. فـ"الشومة" هي أيضاً عصا ولكنها "ناشفة للغاية" فلا تترك فرصة لشيء من الغموض أو المرونة لأنها تستهدف حصرياً غرضاً واحداً وهو تكسير عظامك فعلاً لو كنت معارضاً أو ناقداً أو فيلسوفاً أو صحفياً أو عابر سبيل كتب مرة في "الفيس بوك" ليدعو الناس لأمور شائكة. أما النبوت فكان متعدد الأغراض. وكان شيوخ "الخفر" يتمتعون بتوظيفه أساساً لإسقاط وإنزال ثمر التوت مباشرة إلى أفواههم دون حاجة لصعود الشجر. أما الرياضيون الشعبيون الأصلاء فعلاً وأغلبهم كان يمقت مهنة "الخفر" أو الأمن لأنها كانت في رأيهم مسيئة للرجال فكانوا يستخدمون النبوت في "التحطيب" وهو رياضة تشبه إلى حد بعيد المبارزة بالسيوف وإن كانت تمتاز بالتأكيد أنها أخف ضرراً بكثير. فالنبوت عصا ولكنها ناعمة إلى حد كبير وغرضها ليس تحطيم الهيكل العظمي وإنما التسبب في شيء من الألم، لو كان بجسمك شيء من اللحم. اليوم يناقش الناس في مصر وبلاد عربية أخرى حكمة استخدام مجرمين محترفين وخاصة في استخدام "الشوم" والأسلحة البيضاء أو فنون الكاراتيه في تطبيق سياسات أمنية تقضي بإلحاق العقاب بالمعارضين الشباب خارج إطار القانون.
وفي الماضي البعيد لم يكن يكسي عظام المصريين وغيرهم من العرب سوى ما هو ضروري من اللحم فقط. فأغلبهم كان يعمل عملاً شاقاً ويتحرك بكل عضلاته فلا يتم تخزين الشحوم في الجسد. وكان "الدايت" الرئيسي هو الخضروات والفاكهة وقليل من الخبز ومنتجات الألبان. وقد اكتشف العالم بعد ذلك أن هذا هو المطلوب فعلاً للوصول إلى صحة جيدة وبناء جسم رشيق بدون تكلف ولا تكاليف. ولا نعرف متى وقع الانقلاب في هذا النظام الغذائي الجبار الذي أنقذ سكان البحر المتوسط من الإبادة في الماضي. والأرجح أن التغير بدأ تدريجياً بواسطة كبار الملاك ثم العمد والخفر ثم كبار الموظفين في المدينة. إذ تبنت هذه الطبقات العادات البريطانية في الأكل وهي تعتمد على النشويات واللحوم الحمراء. وصار الإكثار من هذه المواد علامة اليسر، وهو ما جعلها مغرية لكل من يريد أن يظهر ثراءه وانتماءه للطبقات العليا. وعلى رغم جهودي الحثيثة فشلت في معرفة سر الرغبة في تقليد هذه الفئات في مصر رغم أنها كانت قليلة الأصل ولا فضل لها في شيء سوى خدمة "الباشا الكبير". وأحدث هذا الانقلاب الغذائي أثراً أكبر وأبقى من الانقلاب أو الثورة العسكرية التي وقعت عام 1952. ولكن الأثر الصافي للانقلاب الغذائي كان سلبياً بحتاً. ففقد كثير من المصريين والعرب رشاقتهم وحيويتهم المهولة. ولفترة طويلة ساد الوعي الزائف الذي يقول إن الخبز الأبيض أفضل من الخبز الأسمر، بل ومن أكل التوت. بل صار التلبس بأكل التوت أمراً يشوه المكانة الطبقية المزعومة لمن يفعلها علناً. وهجر الفلاحون زراعة شجر التوت حتى جاءت الشركات الرأسمالية الكبيرة في مجال السلع الغذائية لتعيده لنا في علب كرتونية. فعاد البعض لتقديره.. وعلناً لأول مرة منذ فترة طويلة لمجرد أنه مستورد!
والواقع أن هذه "التحديثات" لم تكن الوحيدة. فقد قرر أصحاب مذهب "قوى السوق" أن الأفضل أن تشتري أكبر قدر ممكن من الآلات الزراعية والصناعية بدلاً من العمل اليدوي أو الجسماني الشاق مع استخدام أكبر قدر ممكن من الأسمدة والمبيدات في الزراعة وأكبر قدر ممكن من الكيماويات في الصناعة. وبدت الفكرة مغرية حتى لفقراء الفلاحين فأخذتهم الحمية لشراء الآلات للعمل في بضعة قراريط قليلة من الأرض. وانتهى الأمر بأن نستورد نحو ثلثي غذائنا ودفع أرقام فلكية مقابل مواد غذائية لا تغذينا فعلاً وإنما تضيف لنا أوزاناً كبيرة لأنها بدون قيمة غذائية حقيقية ولأن الشحوم تتراكم في الأجسام التي لا تعمل.
وأضافت "الثقافة الإعلامية" الحديثة قدراً مذهلاً من المباهاة والفخر بالميوعة والنعومة الأنثوية والتدليل المبالغ فيه للأجسام المترفة في نفس الوقت الذي يبحث فيه الغربيون عن طريقة لاستعادة ثقافة العمل اليدوي والحراك الجسماني وصاروا يحصلون عليه عن طريق مراكز متخصصة تنتشر مثل النار في الهشيم. ولأن هذه المراكز انتشرت في الغرب فقد عادت لنا وصارت لها شعبية كبيرة في أوساط الطبقة الوسطى والعليا. وصار الأمر مضحكاً. فبدلاً من أن نعيش الحياة الطبيعية، ونمارس العمل اليدوي حيث يتفوق على الآلات أو يغنينا عنها، صرنا نعتمد على شراء "الحق في الحركة" بأثمان مكلفة وطرق متكلفة. ولأننا توقفنا عن العمل الجسماني وصرنا نعمل من خلال مكاتب وبالآلات حتى في الريف فقدت عظامنا الصلابة وصارت أكثر هشاشة.
وبذلك صارت أجسامنا أكثر خضوعاً لـ"الشومة" وآلات التعذيب الأكثر حداثة. وصار الخوف أيضا أكثر تأثيراً على العقل والوجدان. ومع الخوف يأتي الاستبداد وأيضاً يأتي الفساد. فاليوم أنت لا تكافئ نفسك بأكلة توت بعد يوم عمل شاق، بل بحشر أطنان من اللحوم في جسم لا يتحرك. واليوم أيضاً صار البطش يتعدى "علقة بالنبوت". فالتعذيب بالكهرباء هو الحد الأدنى في بعض المواقع السيادية المهمة. وبذلك صارت الحداثة خدعة من الناحيتين.
واليوم لا يمكن مراجعة نظم القمع الوحشية أو الحديثة بدون مراجعة كل نمط الحياة التي فرضت علينا بالتقليد الأعمى أو الأعور. بل ويبدو أننا سنفعل ذلك يوماً ما ولكن بنفس الطريق: أي التقليد. فصار استعراض الثراء يتم عن طريق العودة للطعام الطبيعي أو العضوي لأن هذا ما صار الغرب يطلبه. كما قد نعود أيضاً لبذل شيء من الجهد والحركة لأن الغرب صار يراجع نظم العمل الكسول وخاصة في المكاتب الحكومية. ولو أن أنور وجدي يعيش بيننا اليوم لسهل عليه فهم لماذا كان "الباشا" في فيلم "غزل البنات" فيما أتذكر يرتدي ملابس غاية في البساطة بينما "خادم الكلب" كان يبالغ في التأنق. وعلى رغم ذلك لن يكون من السهل إقناع شعوب بأسرها أن كثرة الأكل كارثة، وأن الانتقال العكسي من نظام الغذاء النشوي "الحديث" إلى الخضروات والفاكهة وقليل من اللحوم البيضاء وكثير من البقوليات هو الطريق الصحيح لإظهار النعمة وشكر الله كثيراً عليها.
وبالطبع لا يمكن تعميم الدعوة للعودة للماضي. والقضية هي كيف نختار لأنفسنا مؤسسات وطرقاً أصيلة وتسمح بتجارب إنسانية وسياسية واجتماعية مضيئة دون انتظار لحسمها بتقليد الغرب أو بالاستعادة الكسولة لتراث الماضي.
التعليقات