بقلم : صفاء أيت لشكر
لم تكن مراكش يوما مدينة عادية، كانت وما تزال مدينة بذاكرة تاريخية متخمة بالحكاية، وبصوت المآذن الذي يعلو فوق جدرانها الحمراء، وبأزقة تتلوى كأحجية قديمة في دفتر مغربي منسي، هي المدينة التي تُقدَّم للعالم كعاصمة للسياحة والثقافة، وكأنها لوحة معلّقة على جدار الترويج، أو صورة على بطاقة بريدية تصلح لكل المناسبات
جامع الفنا الساحة التي تسكن في المخيال كمكان الفتنة والجمال، تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مسرح مفتوح للفوضى، فوضى الأسعار، وفوضى المعاملة، وفوضى الوعي السياحي، من يدخل أحياءها القديمة أو يمر عبر ساحة جامع الفنا، لا يعود بشعور الطمأنينة والدهشة، بل بقدر كبير من التوتر، وأحيانًا من الإهانة. الساحة التي كان من المفترض أن تكون حاضنة للزائر، تحوّلت إلى ميدان صاخب يلاحق فيه الباعة الناس بلا هوادة، وتتحوّل فيه عبارات الترحيب إلى نوع من الضغط النفسي المربك، والابتسامة إلى فخّ تجاري متقن الإخراج.
الأسعار فيها لم تعد تعكس منطق السوق، بل أضحت انعكاسًا لمزاج يومي جامحو سلعة بسيطة بلا جودة حقيقية، تُعرض بثمن يكاد يناطح خيال من زار المدينة قبل سنوات. وإذا تجرأت على الاستنكار، فالبائع يقابلك بوجه جامد، يوحي بأنك أنت الغريب الذي لا يفهم قواعد هذا "المقام التجاري المفتوح"، لقد أصبحت المعاملة التجارية في مراكش مجردة من الروح، قائمة على استنزاف الزبون، لا على خدمته، على الاحتيال المقنّع لا على تقديم التجربة المغربية الأصيلة.
يحكي أحدهم عن مواطنة مغربية قررت تناول وجبة سمك في ساحة جامع الفناء ، جلست على نية تذوق الطعام الشعبي في قلب الساحة، فاختارت طبقًا بسعر بدا منطقيًاو لكن المفاجأة جاءت بعد دقائق، حين طلبت السلطة المرافقة أمر يُفترض أنه ضمنيًا ضمن وجبة السمك. جاء النادل ببشاشة وابتسامة واسعة لكن تلك الابتسامة تحوّلت عند لحظة الدفع إلى حيلة "السلطة طبق مستقل"، قالها البائع ببرود، مضاعفًا السعر كما لو كنا في مزاد علني، لا مطعم شعبي. وعندما استنكرت الزبونة الأسلوب، قابلها النادل بوقاحة صادمة، كأن الترحيب كان مجرد طُعم، وحين ابتلعته، انكشفت الحقيقة لا قوانين، ولا احترام، ولا من يحاسب.
تكررت القصص، وتعدّدت الوقائع فتلك فتاة وصديقتها تتجولان وسط السوق، تتفاجآن بامرأة تقفز أمامهما لتقدم "الفال" على حد وصفها، وتبدأ بنقش الحناء على أحد أصابعهما. الضحكة تحوّلت إلى توتر، والنقش الذي بدأ بمبادرة مجانية، انتهى بطلب أداء مبلغ مبالغ فيه، مصحوب بلهجة هجومية وكلام مستفز فالزينة في جامع الفناء لم تعد زينة فقط، بل أضحت فخاخًا متنقلة بجلد جميل، تسحر الزائر لحظات… ثم تجرّده من ماله وراحته بعد دقائق...
وفي ركن آخر، تنتشر منتجات تجميل وعطور تُعرض أمام الزبون على أنها أصلية من ماركات معروفة، تُفتح العلبة أمامه لطمأنته، لكن ما يُباع لاحقًا هو نسخة مقلدة، مُغلّفة بإتقان، لكنها تفتقر للجودة ومحمّلة بوهم. المواطن سواء كان ابن المدينة أو زائرًا من مدينة مغربية أخرى صار يتلقى معاملة من الدرجة الثانية، لأن "السائح الأجنبي" بات هو المعيار الوحيد لتحديد قيمة الخدمة والثمن ، حتى سيارات الأجرة فقدت بوصلة القانون: لا استجابة للمواطن صار زمن تفاوض، وغالبًا خضوع. المواطن يدفع أكثر لأنه "لا يبدو سائحًا"، أو لأنه لا يملك خيارًا سوى الركوب والسكوت.
تعيش الساحة اليوم نوعًا من التجميل الخارجي الذي لا يعكس عمق الجرح الداخلي. الكاميرات تصوّر مشاهد من ساحة جامع الفنا، الألوان، الموسيقى، الحناء، العطور… فتُصدّر للعالم صورة حالمة، لكن الصورة تُقصي المعاناة اليومية لمن يعيش في المدينة، وتُخفي تمامًا واقع التلاعب، الاستغلال، وغياب الرقابة.
هل هذه هي مراكش التي يُفترض أن تكون بوابة المغرب الثقافية والتاريخية إلى العالم؟ أين هو التوازن بين السياحة وبين كرامة الساكنة المحلية؟ وكيف تحوّلت مدينة كانت ملاذًا للأجانب والمغاربة،
ما يُحزن أكثر هو أن هذا الوضع لا يعبّر عن روح المدينة الأصلية، بل عن صورة هجينة ومشوّهة تولّدت بفعل الضغط السياحي وتواطؤ بعض الجهات مع ممارسات مشبوهة. التلاعب ليس فقط في الأسعار، بل في المفاهيم فالضيافة تُباع، الكرم يُساوَم عليه، والجمال يُوظَّف كخدعة تسويقية، حتى الطقوس اليومية البسيطة كشرب الشاي او شراء الحناء، أو أخذ صورة قد تتحول إلى فخ استغلال إذا لم تكن حذرًا.
مراكش، رغم كل ما سبق، لم تفقد تمامًا بريقها. لا تزال هناك زوايا تصر على الاحتفاظ بالصفاء القديم، تجار شرفاء، نساء حادقات، ورجال ذوو نخوة. لكن هؤلاء أصبحوا أقلية، صامتة، غارقة وسط ضجيج الفوضى. كما أن إرث المدينة المعماري والثقافي لا يزال قائمًا، لكنه مهدد بالتحوّل إلى مجرد ديكور دون روح، إن لم تُتخذ إجراءات حقيقية لإعادة الاعتبار للمواطن وفرض احترام الحدّ الأدنى من التنظيم والعقلانية.
السياحة في حد ذاتها ليست المشكلة، بل هي شريان اقتصادي حيوي لكن الإشكال الحقيقي يمكن في ان مراكش بدأت تأكل نفسها باسم السياحة، تفرّط في سمعتها، تفرغ من مضمونها، وتحوّل سكانها إلى غرباء، وموروثها إلى سلعة مفرغة من المعنى و أمام هذا الواقع، يبرز سؤال جوهري
هل ستظل ساحة جامع الفناء تسوّق للعالم كوجهة الأحلام، بينما يعيش أهلها الغلاء والاستغلال؟
أم حان الوقت لنقرّ بأن المدينة في حاجة ماسة لإعادة بناء وعيها السياحي، حتى لا نخسر آخر ما تبقى من روحها الأصيلة ...
التعليقات