على مسرح الحياة، يقف ممثلٌ مُتمركزٌ حول ذاته، يرى نفسه نجمًا ساطعًا في مسرحيةٍ تدور أحداثها في خياله.

تلك الصفة التي تتسلل إلى النفس خيوطها كسراب يلوح في صحراء الوهم ، لحنٌ ينبعث من أعماق الذات، يبدأ هادئًا رقيقًا، ليتضخم مع الوقت، مُسيطرًا على كل نغمة في سيمفونية الوجود.

 تلك الصفة ليست وليدة اللحظة، وليست ناجمة عن حدث محدد بذاته، لكنها أيضاً ليست مشكلة جينية أو مرضًا وراثياً لا فكاك منه. إنما هي طبع مكتسب، يتنامى ويتزايد مع الأيام. 

في البداية، يشعر المرء بأنه متميز عن الآخرين، يبدأ بإقناع نفسه بتميزه وأنه يستحق الأفضل. لكن ماذا في ذلك؟

أليس من حق الإنسان أن يبحث عن معنى في تفوقه؟

 أليس جديرًا بالمرء أن يفكر على هذا النحو، وإلا أصبحنا نسخًا مكررة من بعضنا البعض ؟ نعم، فإذا لم يحمل المرء تقديرًا لذاته لن يقدره الآخرون. إذا لم يقنع نفسه بأنه يستحق حياة أفضل وأن عليه أن يكون رقمًا في هذه الحياة، لظل طوال عمره في القاع، يخبط عشواء دون هدف، ولما وجد سبيلًا إلى ارتقاء القمم والتغلب على الأعباء. 

بالتأكيد، هذه النرجسية يمكن أن تكون إيجابية، فتعزز التعاطف مع الذات والإيمان بالقدرات،وتجعل من المرء أكثر إدراكا لأهمية التميز الذي هو من سنن الكون الأساسية . ولكن إذا لم تكن موزونة بالتقدير الصحيح للذات، فإنها تتحول إلى فخ خطير يحجب النظر عن الأهداف الكبرى ويقيد التقدم نحو التحديات المهمة.

إذاً لابد أن الأمر لا يقف عند الشعور بالتميز وتقدير الذات فقط، فتلك هي بداية الطريق وذلك هو الفخ القاتل. 

نعم فخ قاتل أن لا يعرف المرء حجمه الحقيقي ، ان لا يعرف قدراته وإمكاناته الحقيقيقة .

المنجزات البسيطة فخ . مديح وثناء الأخرين فخ؛ يجعل المرء يعيش جو النجاح الزائف، ويبدأ عندها بالاكتفاء بتلك المنجزات، بينما تفتر عزيمته وتتوقف عن السعي في سبيل الاهداف العظيمة...

من هنا تتسلل النغمة الشيطانية، فتقنع صاحبها بأنه فوق الجميع، استثنائيٌ لا يُقارن، مُستحقٌ لكل الإعجاب والتقدير.

يُصبح مديح الآخرين بمثابة جرعاتٍ من المخدراتِ، تسكره وتغيّر إدراكه للواقع.

فإلى جانب شعور المرء بتفوقه وتميزه عن الآخرين، وإلى جانب تلقيه جرعات من مديح وثناء الآخرين، أضف إلى ذلك بعض المنجزات التي قد تكون بسيطة، لكنها غدت أكبر عندما تناقلها الآخرون وأثنوا عليها. ومن هنا تكبر في عين المرء الأعمال الصغيرة، والنجاحات البسيطة، فلا ينظر إليها إلا من خلال ثناء الآخرين الذي يصبح بمثابة عدسة تظهر الأشياء أكبر من حجمها بأضعاف كثيرة.

يبدأ المرء بتذكر الكلمات التي تحمل الثناء، وتكيل الإعجاب له ولمنجزاته، ثم يعيد سماع تلك الكلمات المليئة بالإطراء، ويعيد تخيلها، وهكذا تصبح الموسيقى المفضلة لديه، لا يشتهي سماع سواها.

 بعدها يبدأ رحلة البحث عن التقدير لذاته ويبحث عن كلمات تثني عليه، محاولًا لفت الانتباه إليه بشتى الوسائل، فلا يطيق الجلوس في الأماكن التي لا يجد فيها ترحابًا وحفاوة أكثر من اللازم. فقد أصبح تقديره لذاته مبالغًا فيه، وأصبح إعجابه بنفسه مفرطًا، مما جعله يؤمن بأنه فريد من نوعه، وأنه يتميز بقدرات خارقة. كل هذا جعل منه شخصية استغلالية لا تفكر إلا في أهدافها ولا ترى حرجًا من تسخير الآخرين في مصالحها الشخصية، دون أي مراعاة أو تفكير في الآخر.

الأمر يتعدى هذا الحد إلى السعي المستمر للتقدير الذاتي، حيث يبحث المرء بشتى الطرق عن الاعتراف بجهوده، ويُظهر تفاعلاً غير متناسق مع الأماكن التي لا توفر له الاستحسان والتقدير الذي يستحقه. هذا التهويل بالذات يمكن أن يعزز من الشعور بالاستحقاق، مما يولد حالة من الغيرة والحقد تجاه الآخرين والذين قد يظن ان نجاحهم يشكل خطرا عليه وتهديدا لكبريائه .

فالشخصية النرجسية، إلى جانب حبها لنفسها والمبالغة في تقدير إنجازاتها، إلا أنها لا تعترف بالآخرين ولا بإنجازاتهم، بل تسعى جاهدًة للنيل من منجزات ونجاحات الآخرين والتهكم بها ولو على سبيل المزاح.

.

النرجسية تُضفي على صاحبها سمةً ساخرةً، تجعل كل ما حوله يبدو كمسرحية هزلية، حيث يتحول كل شيء إلى محاكاة لأهوائه المتعالية. لا يعجبه العجب، ولا يثيره الجمال، فكل شيء يبدو غير مهم بجانب عظمته المتعالية.

هذه السخرية تتحول إلى سلاح يدمر علاقاته مع الآخرين، يُبعدهم عنه تدريجيًا. فمن يمكنه أن يتحمل العيش مع شخص لا يقدر مشاعره ولا يحترم آراءه؟

ولما كانت نشأة النرجسي وهو محط إعجاب مفرط وشعور بالتميز، مما أدى إلى تضخم الأنا لديه بشكل كبير. مع الوقت، تحول هذا الإعجاب إلى حاجة ماسة الى التقدير مما دفعه إلى التمسك بأوهام العظمة والسخرية من كل ما لا يؤكد تفوقه

وهكذا يعيش النرجسي في عالم موازٍ، حيث يتخيل الأحلام الوردية البعيدة عن واقع قدراته الفعلية. يؤمن بقدرات خارقة لا يمتلكها، ويتوقع أن يُحتفى به في جميع تصرفاته، مهما كانت تافهة أو سخيفة.

نتيجة لكل هذا يصبح متسلطًا على مشاعر الآخرين، يطالبهم بمشاركته أفراحه وأتراحه، معتبرًا مشاعرهم جزءًا من مشاعره.

كيف لا؟ بل ان العالم كله وجد من أجله من أجل سعادته وهنائه .

ثم ان النرجسي لا يتحمل النقد ولا آراء الآخرين فيه بل يعده هجوما على هويته المتهاوية، فهو يدافع بشكل آلي عن شعوره بالنقص وعدم الأمان.

وهكذا تصبح الحياة مسرحًا لتمثيل مأساة مؤلمة، مأساة النرجسي المقيد بأوهام العظمة. 

يصبح هذا الشخص أسيرًا لذاته، محاطًا بجدران من غروره، وهو غير قادر على رؤية الحقيقة أو تقبل النقد. يعاني من جوع عاطفي لا ينتهي، حيث يسعى جاهدًا لمديح الآخرين وتقديرهم، بينما يبقى مشكوكًا في ما إذا كان يستحق ذلك حقًا.

ولكن، من أين سيحصل على هذا التقدير إن لم يكن حقًا مستحقًا له؟ هنا تبدأ رحلة السقوط المدوي، حيث يكون النرجسي معرضًا لفقدان الاتصال بالواقع وانهيار الأوهام التي بنى حولها حياته النفسية. 

يصبح النرجسي محاطًا بالأعداء، حيث يرى كل من لا يمجده ويقدسه تهديدًا لوجوده الهش. يقوم بتحطيم علاقاته مع من حوله، ويضيق على نفسه مساحة الحياة. يصبح وحيدًا، معزولًا مع ذاته المتضخمة، ومغلقًا في مسرحه المظلم.

هل هذه هي النهاية الحتمية للنرجسي؟

 لا، ليس بالضرورة.

لانه قد يستطيعُ تحويل سيمفونية الذات المُتضخمة إلى لحن مُنسجم مع نغمات الحياة الطبيعية .

ثم من خلال رحلة طويلة من العلاج والوعي الذاتي، قد يستطيع النرجسي تحطيم قيود غرورهِ، واكتشاف ذاته الحقيقية.

 فعندما يكون التميز والاعتراف بالذات موجهين نحو أهداف كبرى،عندها لا يصبح الفرد مقيدًا بالأمور الصغيرة والمجاملات السطحية، ويمكنه أن يحقق نجاحًا حقيقيًا ومستدامًا في حياته المهنية والشخصية.

هذا يجعلنا نتساءل، هل نحن فعلاً نعرف حقيقة ما نستطيع تحقيقه؟ هل نحن مستعدون للسعي وراء أهدافنا العظيمة، أم نكتفي بأقل من هذا؟