لماذا لم يبحث العرب عن الطائرة الماليزية؟
الجواب: العرب لا يبحثون!
في الحادي عشر من إبريل 2014 أعلن رئيس وزراء أستراليا أن سفينة أبحاث أسترالية حددت مكان الصندوق الأسود للطائرة الماليزية الغارقة، بعد جهود شاركت فيها 26 دولة، ليس من بينها دولة عربية واحدة؛ على الرغم من أن "كوالالمبور" صارت مربط خيلنا ومسرح ليلنا؛ حيث يحج إليها المدربون والمتدربون والسائحون العرب، ليفتحوا صناديقهم كل مساء، في علبها الحمراء.
في عام 1994 اكتشفت شركة "إنتل" خطأً منطقيًا في أحد معالجاتها، فاستثمرت 475 مليون دولار لإصلاحه، رغم أنه لم يَطَل إلا معالجًا واحدًا، وكانت احتمالات تكرار الخطأ لا تزيد عن واحد من بين كل 3.6 مليار عملية. في ذلك العام كان يقود الشركة العالم اليهودي "أندي جروف" الذي لخص تجربته في كتاب: "من خاف سلم: فلسفة مواجهة التحديات في كل الشركات والمجالات – عدد خلاصات رقم (110) – 1997."
وقبل ذلك ببضعة أعوام – أي قبل خوف شركة "إنتل" وبحثها عن السلامة وسيطرتها على صناعة المعالجات الرقمية في العالم – دفعت شركة "فيليب موريس" 12 مليار دولار لشراء شركة (كرافت)، وعند تقييم الأصول المادية للشركة الأخيرة، تبين أنها لا تتجاوز 1,2 مليار دولار. فأين ذهبت مليارات (موريس) الأخرى؟ القيمة الحقيقية للمنتجات والمؤسسات لا تكمن في المخازن ولا في الملموس من الماديات، بل تنبع من الأفكار غير المحسوسة، ومن الخيال والإبداع؛ فهذه الثروات غير المحسوسة لا تحدها حدود ولا تعرقلها قيود.
يقول "بل جيتس": "مصنع ميكروسوفت الوحيد هو خيال الإنسان". ويقول رئيس شركة "3 إم": "نحن نبيع الكثير من الذكاء، والقليل من المواد". وهذا هو الفرق بين المعلومات، وبين المعرفة. انظر إلى أي منتج تستخدمه، واحسب تكلفة المادة الخام التي يتكون منها، وقارنها بتكاليف ابتكاره والإعلان عنه ونقله وتخزينه وتوزيعه وبيعه بالجملة أو بالتجزئة. ستفاجأ بأن التكلفة الأولى لا تزيد عن 1% من التكلفة الإجمالية. فليست هناك منتجات ذات قيمة مجردة؛ لأن الأشياء تستمد قيمتها من الخيال الذي تصوَّرها، والوظائف التي تؤديها، بحكم المعرفة الكامنة فيها.
تتقدم الأمم بفعل الحرية والقيم والمعرفة لا بفعل المعلومات. المعلومات متاحة للجميع، بينما لا تطيع المعرفة إلا من يبحث فيها. فكم من كتب كثيرة أنتجها أصحابها بطريقة "كويك دليفري" تضم معلومات وتخلو من المعرفة، أو هي تضم معرفة مشوشة ناتجة عن معلومات ملوثة، ووجود الأخيرة أكثر ضررًا من عدمها!
المعرفة المشوشة هي التي شوهت هويتنا. عندما ألفتُ كتاب "دائرة المعارف العربية، أزمة فكر لا أزمة نشر" كنت أحاول أن أعرف لماذا ترجم العرب عشرات الموسوعات، وفشلوا في تأليف دائرة معارف واحدة. وكانت الإجابة: "نحن أمة بلا هوية وبلا نظرية." هذه حقيقة لا مراء فيها. فأمة بلا موقف، هي أمة تائهة ومشوهة وشائهة الوجوه والوجود؛ هي أمة لا تريد أن تبحث عن ذاتها، ولا تريد أن تبحث في علومها. فكل اكتشافات العصور الوسطى العلمية التي أفادت منها الحضارات العالمية، أتى بها مسلمون من غير العرب.
منذ مطلع القرن التاسع عشر بدأ العالم يفرق بين المعرفة والمعلومات. في ذلك الزمان قال "صامويل جونسون": "قيمة المعرفة كامنة فيها." المعرفة لا تستهلك ولا تخضع لقوانين الاقتصاد التقليدي، ومنها قانون "تناقص الغلة." فهي أداة الإنتاج الوحيدة التي تزيد قيمتها كلما زاد استخدامها.
لقد وصف "عبد الله القصيمي" (رحمه الله) العرب بأنهم ظاهرة صوتية. فالذين يعرفون أقل، يرفعون أصواتهم أكثر. فلقد رأينا الجيل الممسوح والممسوخ من المديرين والمدربين والإعلاميين يرفعون أصواتهم لأنهم كانوا وما زالوا فارغين، وبلا نظرية. فهم لم يدركوا بعد – ولن يدركوا أبدًا – أن عدم المعرفة خطر، وأن الرغبة عن المعرفة خطر أكبر.
خسرت مؤخرًا عددًا من أصدقائي الذين يحملون شهادات بكالوريوس من جامعات غير معترف بها، ودخلوا عالم التدريب والاستشارات، وأعلنوا فجأة أنهم يحملون درجات الدكتوراه. فهناك جامعات عربية وأجنبية مزوِّرة تبيع شهادات واعتمادات لمن يدفع. هؤلاء يبيعون معرفتهم المغطاة بالسكر والمحلاة بحرف (د) في كل الدول العربية، ويقبضون آلاف الدولارات، وهي مال حرام، لأنهم ومن يشغلهم يدفعون الرشاوى لمديري التدريب، ليقدموا معلومات ملوثة، ومعرفة مشوشة، لمديرين مرتشين.
يقول "بنيامين فرانكلين: "لا أحد يستطيع الاستيلاء على حافظة نقودك إذا ما أفرغتها في رأسك." لكن العرب يفرغون أموالهم في بطونهم لا في عقولهم. ولهذا دأب بعض المدربين والدكاترة والأكاديميين المزورين على البحث عن مصادر مجانية لخلاصاتنا. فهم يشترون الشهادات المزيفة بآلاف الدولارات ولا يدفعون خمسة دولارات لشراء خلاصة كتاب لم يقرأها أحد قبلهم. فهناك من يريد أن يدرب في الاستثمار البشري، ولا يريد أن يستثمر في ذاته ككائن بشري. ولهذا أصبحنا أمة بلا رأس مال فكري، وبلا حكمة، وبلا هوية.
"درع المحيط" هو اسم سفينة الأبحاث الأسترالية التي حددت مكان الصندوق الأسود للطائرة الماليزية الغارقة في المحيط. وهي صناعة "نرويجية" مدعومة بسفينة رصد بريطانية، وقد التقطت نبضات وإشارات الصندوق الأسود القابع على عمق 2.8 ميل في أعماق المحيط الهندي. الصناديق الإلكترونية السوداء قابلة للرصد والانتشال لأنها ترسل إشارات رقمية نابضة طلبًا للنجاة. أما العقول السوداء فمن الصعب إنقاذها من ظلماتها، لأنها تعيش بلا هدف، وبلا نبض، وبلا دليل يشير إلى الاتجاه الصحيح في الحياة.
لا أحد يستطيع انتشال أمة جاهلة وغارقة في قاع العالم، دون إرادتها.
نسيم الصمادي مؤسس موقع www.edara.com
التعليقات