بقلم/ نور أنس طيارة

كان من المفترض أن يحلم الإنسان العربي، كما يفعل غيره، أن يحقق ذاته ويكتشف العالم ويؤسس حياة تليق به.

لكن الواقع خالف التوقعات، وغلبت النجاة على الحلم.

أصبح البقاء حيًا في بعض المناطق إنجازًا، والهروب من الوطن خطة، والغربة أمنية وليست خيارًا قاسيًا.

أن يهرب الشاب العربي ليس بالضرورة ضعفًا أو خيانة، بل أحيانًا يكون النجاة هي الفعل الوحيد المتاح.

نسمع كثيرًا جملًا من قبيل "ما ضل أمل"، "بدي هاجر لو شو ما صار"، "ما بدي أحلم بدي أعيش".

وهذا الانكسار الجمعي ليس وليد الكسل، بل هو نتيجة سنوات من القهر والخذلان وانعدام الأمان.

حين تكون الحياة اليومية مملوءة بالخوف والفقر وغياب العدالة، يصبح مجرد الاستمرار نوعًا من البطولة.

أوطان لا تطرد أبناءها لكنها تفعل أحيانًا دون أن تقول ذلك

قد لا تقول الأوطان صراحة "ارحلوا"، لكنها تفعل ذلك حين لا توفر شيئًا من مقومات الحياة الكريمة.

عندما تصبح الوظيفة حلمًا صعب المنال، والسكن الآمن رفاهية، والتعليم عبئًا لا حقًا، والصحة تجارة، فإن البقاء يتحول إلى معركة شرسة.

كم من طبيب ومهندس ومفكر غادر؟ ليس لأنه لا يحب وطنه، بل لأنه لم يجد مساحة للحياة فيه.

كم من شابة لديها أحلام أن تصبح شيئًا كبيرًا لكنها وجدت نفسها تضع كل خططها في حقيبة صغيرة على أمل أن تصل إلى بلد آخر يمنحها فرصة.

الخذلان لا يكون فقط من السياسات، بل من المجتمع أحيانًا، من النظرة الضيقة، من الفرص المسروقة، من الفساد الذي لا ينتهي.

وهكذا، تبدأ أولويات الإنسان بالتغيّر. لم يعد الحلم أولوية، بل البقاء. لم يعد الشغف دافعًا، بل الخوف.

لا تلم من يحاول النجاة ولا تحتقر ألمه

من السهل أن نحكم على من غادر أو على من يسعى للهجرة.

لكن الحقيقة أننا لا نعرف تفاصيل حياة الآخرين، ولا أوزان أحلامهم المكسورة.

النجاة ليست دائمًا أنانية، وليست بالضرورة هروبًا من المسؤولية. أحيانًا، تكون النجاة هي المسؤولية ذاتها تجاه الذات والكرامة.

أن تحاول النجاة ليس عيبًا، بل رد فعل طبيعي حين يضيق الأفق وتختنق الأرواح.

وفي كثير من الحالات، تكون الغربة هي بداية إعادة التكوين، لا الهروب من الجذور.

علينا أن نكون أكثر تفهمًا لبعضنا، أن نتعامل مع بعضنا برفق، لأن كل شخص في هذه المنطقة لديه معركة خاصة يخوضها، ولا أحد يخرج منها سالمًا بالكامل.

لكن هل نملك حق الحلم فعلًا

في زحمة هذه الوقائع القاسية، قد يسأل الإنسان العربي نفسه: هل ما زال من حقي أن أحلم؟

هل يُسمح لي بأن أفكر في مشاريع وأفكار وطموحات غير مرتبطة فقط بالبقاء؟

هل سأُتهم بالسذاجة إن حلمت، أم بالأنانية إن رغبت بأن أعيش حياة شبيهة بحياة البشر في أماكن أخرى من هذا العالم؟

الحقيقة أن الحلم حق، مهما صغر أو كبر، حتى ولو كانت الأرض التي نقف عليها لا تشبه أرض الأحلام.

المشكلة ليست فينا، بل في الواقع الذي حاول خنقنا.

المشكلة أن العالم لا يعطينا فرصة للحلم، ثم يلومنا حين نحاول النجاة.

الجيل العربي الجديد بين مفترق طرق

نحن جيل لا يشبه من قبلنا.

جيل يعاني من إرث الصراعات، لكنه أيضًا يملك وعيًا جديدًا، وجرأة على السؤال.

جيل لا يرضى بالقليل، ولا يريد حياة نصفها كرامة ونصفها خوف.

وهذا التناقض مؤلم، لكنه بداية تحوّل.

أن نرفض الواقع لا يعني أننا بلا جذور، بل أننا نبحث عن تربة تسمح للحلم أن ينمو.

وهذا ما يجب أن تفهمه الأنظمة والمجتمعات وحتى الأسر.

الحلم ليس رفاهية، بل حاجة نفسية وإنسانية.

وحين يُحرَم الإنسان من الحلم طويلًا، لا يعود فقط غريبًا عن وطنه، بل غريبًا عن نفسه أيضًا، ويبقى الأمل..