معضلة السجين

عندما طرحت معضلة السجين في المقال السابق واجه الجميع مشكلة في فهم دوافع هذا الانسان في البقاء في السجن وأرجعه معظم الناس إلى أسباب داخلية لكن السبب الحقيقي ليس فقط في نفس انسان واحد بل في نفوس الجميع

لكن بعد فهم طبيعة السجن الذي أتحدث عنه سيتعجب بعضكم من أنه كان يفكر في الخروج من الأساس

بالمثال يتضح المقال

ولكن قبل الخوض في المسائل الفكرية لا بد من مثال يوضح المعاني التي نناقشها واليوم معنا ثلاثة أمثلة دخلوا سجناً من سجون الحياة

الزوجة الضحية

الاولى: زوجة حنون مخلصة زوجها سكير عربيد يضربها يوميا ويهينها أمام ابنائها ليأخذ منها ما تعبت في جمعته من المال لدرجة أن أبنائها لم يعودوا يحترمونها ولكنها صابرة لا تريد الطلاق وتتحمل

المحب المقهور

الثاني شاب يافع وقع في شباك قلب فتاة حسناء ذات حسب ونسب وهي افتتنت به أيضاً وعندما اكتشف الاب العلاقة بينهما قرر ان يتصرف وأتى بالفتى وطلب منه مهراً وطلبات كثيرة عليه وعلى اهله وقريته كلها

لكن الشاب تحت وطأة الحب وافق

وصار يعمل في مهن غير آدمية طوال يومه فقط ليصل إلى حلم حياته وحرم نفسه من الراحة والاحترام

المدمن المسؤول

الاخير: شاب مدمن هزيل لا يعمل ويعتمد على أبيه الذي يكون العائل الوحيد لأمه وأخوته البنات وفي يوم يموت الأب ويجد الابن المدمن نفسه أمام أم وإخوة يحتاجون لمن يعولهم وتنهال منهم الطلبات عليه وهو لا يتمكن حتى من جلب قوت يومهم

نظرة من خلال شاشة

عندما نسمع هذة السيناريوهات في السينما فإننا نرى لها نهايات سعيدة مليئة بالتحدي والثقة والتضحية في سبيل الآخرين

لا نرى إلا زاوية واحدة

لكن الواقع مختلف تماماً عن الأفلام

فعندما نتكلم بلغة الواقع نجد أن بعض التضحيات ثمنها أكبر مما يجب وقد تكون مؤذية لنا ولغيرنا أكثر مما هي مفيدة

المفاتيح

ولكن إن كان هذا هو السجن الذي أعنيه فما هو الباب المفتوح

الطلاق والفرصة الثانية

ببساطة الباب المفتوح في حالة الزوجة هو أن تطلب الطلاق وتجد من يساعدها على الخلاص من زوجها المدمن والفكاك من اسره وتحاول بعدها أن تجد غيره يكون أصلح منه أو تربي صغارها بنفسها ان استطاعت 

التخلي عن هوى القلب

والباب المفتوح في حالة المحب المعذب هو ببساطة أن يتخلى عن هذا الحب الذي لم يجلب له إلا الأذى والمشاكل ويحاول ان يجد زوجة مناسبة له ولحاله البسيط

الاعتراف بالحاجة للمساعدة

أما باب المدمن الفتوح فهو اعترافه لأمه وإخوته أنه مدمن ويحتاج إلى مساعدة وعلاج ويبحث عن مساعدة ليتخلص من إدمانه ويبدأ في تحمل مسؤولية أمه وإخوته 

كيف سيفكر في الخروج

بالتأكيد شعرت بغضاضة وأنت تقرأ تلك الحلول لأنه ببساطة قد عودتنا النظرة السينمائية للحياة على أن البطل لا بد أن يضحي حتى انتشرت بيننا اقاويل ان الرجل الحقيقي لا يشتكي أبداً وهذا في الأصل باطل وزور

لذلك يفكر أبطالنا الثلاثة ألف مرة قبل الخروج من الزنزانة والسبب الوحيد هو

ماذا سيقال عني؟!

سيقال على الزوجة أنها سبب خراب بيتها وأنها لم تحترم ظروف زوجها وتصبر عليه وستلام على كل خطأ سيقع فيه أبناؤها في المستقبل وسينظر إلى زوجها المدمن على انه ضحية زوجة لا تحبه ولا تحترمه وسيتعاطف معه الجميع

سيقال على الحبيب أنه كان يدعي الحب وأنه جبان هرب عندما وجد نفسه أمام تحدي صعب ولم يحاول أن يقاتل من أجل حبه

وسيقال عن المدمن أنه انسان غير مسؤول ولا يتعمد عليه وغير جدير بالرجولة وسيتطاول عليه الناس هو واسرته

ظنون الناس سمعة

السر كله في كلمة السمعة وإن كنت تشكك في أن السمعة قد تدفع انسان للبقاء في السجن 

فأحب أن أقول لك أن السمعة لتصل إلى مرحلة تجعل بعض الناس يدخل النار بسبب أعماله الصالحة

حديث الرياء

فعن أبي هريرة رضي الله عنه انه قال:

"سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يقول : أولُ الناسِ يُقضى فيه يومَ القيامةِ رجلٌ أتى به اللهُ فعرَّفَه نِعَمَه فعرَفَها ، فقال : ما عملتَ فيها ؟ فقال : فقال : قاتلتُ في سبيلِك حتى استُشهدتُ ، فقال : كذبتَ إنما أردتَ أن يقال : فلانٌ جرئٌ فقد قيل ، فأمر به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقيَ في النارِ ، ورجلٌ تعلَّمَ العِلمَ والقرآنَ ، فأتى به اللهُ فعرَّفَه نِعَمَه فعرَفَها ، فقال : ما عملتَ فيها ؟ قال : تعلَّمتُ العِلمَ وقرأتُ القرآنَ ، وعلَّمتُه فيك ، فقال : كذبتَ إنما أردتَ أن يقال : فلانٌ عالمٌ وفلانٌ قارئٌ فأمر به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقيَ في النارِ ، ورجلٌ آتاه من أنواعِ المالِ فأتى به اللهُ فعرَّفَه نِعَمَه فعرَفَها ، فقال : ما عملتَ فيها ؟ فقال : ما تركتُ ( ذكر كلمةً معناها ) من سبيلٍ تحبُّ أن تُنفقَ فيه إلا أنفقتُ فيه لك . قال : كذبتَ إنما أردتَ أن يقال : فلانٌ جوادٌ فقد قيل فأمر به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقيَ في النارِ" [أخرجه مسلم]. 

لا نريد أن يكون الثمن السمعة

وهذا هو سبب بقاء السجين في سجنه هو أن سمعته ما زالت بخير ما دام يعاني في صمت

وهذا هو الثمن الذي يجعلنا مجتمعنا ندفعه في مقابل السمعة وهذا لأن هذا المجتمع يكره من يتغلب على الظروف

الفرصة قد تكون طوق نجاة

الزوجة التي تخلت عن زوجها السكير ستتمكن من أن تجد فرصة لتربية ابنائها تربية صالحة أو حتى أن تجد من يربيهم تربية جيدة

والشاب الذي تزوج بغير حبيبته سعى في الحلال ولم يترك نفسه لقصة نسجها له الشيطان ليقع في الحرام في نهاية المطاف

والمدمن الذي طلب المساعدة سيجد فرصة للتوبة والعودة من جديد ليواجه الظروف الصعبة ويحرر اسرته من الفقر

الحقد العظيم

لكن المجتمع لا يحب أبداً أن يعطينا تلك الفرصة لكي لا نكون حجة عليه عندما نتخلص من عيوبنا وهذا ما يسمى الحقد الاجتماعي

فالزوجة التي صبرت ولم تطلب الطلاق وخسرت في النهاية كل شيء بعد أن صار أبناؤها كأبيهم ولم يعد يحترمها أحد تحقد على من تريد تحرير نفسها من السجن التي بقيت فيه هي طوال عمرها

وكل المحبين اللذين خسروا أنفسهم في سبيل الغرام يحقدون على من وجد الحلال واستمتع به

والغارقون في الادمان يحقدون على من يجد فرصة للتوبة والعودة إلى الحياة الحقيقة والإحساس بها

بطاقة السمعة

ولهذا يستخدمون بطاقة السمعة لكي يجبروننا على البقاء في السجن

حتى إن كانت أبوابه مفتوحة فلن يمنعك أحد من شيء لكن لن تستطيع أنت منع أحد من إبداء رأيه في أفعالك

صرنا نتعامل مع بعضنا كأننا مجموعة بضاعة في سوق والكل يحاول أن يسوق لنفسه ويضرب المنافسين لكي يبيع الجميع بنفس الأسعار

ولهذا كان التعفن في السجن خيراً عند بعض الناس من دفع ثمن الحرية من سمعته

البكاء أسهل من المشي

وكلما نظر السجين إلى خارج باب الزنزانة وجد طريقاً طويلاً عليه أن يمشيه لكي يصل إلى حريته الحقيقة